مذكرات معلمة… سيدة القصاص
( مذكرات معلمة ) قصة بقلمي سيدة القصاص
(الحقي يا أبله)
هناك بالدرج الأخير، يجلس غائر العينين رغم اتساعهما،رث الثياب رغم ثراء أسرته، أشعث الشعر قد تجعد من قلة غسله وطوله ، تراه ملوث البشرة على شدة بياضها،هكذا يوميا بحجرة الدراسة،كاد أن يذوب لسانها من كثرة إرشاده وتوصيته بالنظافة، أرسلت لأمه كثيرا
منذ كان في الصف الأول ،ترجتها مرات ومرات، عنفتها بشدة حيث كانوا من نفس البلدة التي بها المدرسة، يأتي بالحذاء مختلف (الفردتين) ، قميصه بلا أزرار، فتخرج الإبرة والخيط
وتصلح ماتستطيع إصلاحه والأدهى أن التلاميذ كانو يقولون لها :
الحقي يا أبلة الواد جاي إزاي؟؟ عنفتهم و ترجتهم على الدوام : لا تقولوا ذلك على زميلكم.
وتوالت هذه الأفعال وهو يجلس تائه الفكر لا يركز مع شرحها،زادت ألما فهي لا تحب أن يكون أحد تلاميذها متأخرا دراسيا،أشارت إلى أهله كثيرا بذلك قالوا لها لا نقدر عليه ؛فكانوا أصحاب مزارع يمارسون تربية الحيوانات وفي شغل عنه ،فوضعت همها في قلبها وقالت لن أهمله وسأفعل كل ما أستطيع ، وبذلت كثيرا له وذات صباح وهي بالفصل الأول من الصف الثالث الإبتدائي جاء المتابع وكان يسمى ( المفتش ) حينها، ودخل حيث كانت تشرح حصة الحساب وكان المفتشون آنذاك كأنهم رجال البوليس ،يتحينون الفرص لاقتناص أي تلميذ ضعيف ليمسكوها ذريعة على المعلم وكأنه اكتشف جريمة عظمى ،نحاها جانبا وأمسك بإصبع (التباشير)وكتب مسألة على السبورة موجها وجهه وكلامه للتلاميذ قائلا :
_ يا ولاد فلاح عنده خمس مواشي راح يبيعهم في السوق التاجر أعطى له خمسين ألف جنيه ، يبقى البهيمة الواحدة بكام؟؟؟ ومد صوته وشفتيه للأمام متربصا الإجابة! فلم يرفع التلاميذ أيديهم وجلسوا كأنما على رؤسهم الطير،فكاد نبضها أن يتوقف وترنحت خجلا من هذا الكمين (التفتيشي) المهيب، ووجه لها المفتش نظرة تشفي ماكرة عرق لها جبينها ،فقطع هذاالإحساس القاتل صوته من آخر الفصل؛
فشهقت متعجبة معقولة أنت ؟ أحمد ؟ قال :
_ أنا يا أستاذ .
ورذاذ أنفه يسيل يكاد يلمس شفته العليا؛ فقال المفتش ناقدا :
_ مابقاش ألا أنت ياعفش اللي ها تجاوب ياخبر ازرق يا ولاد؟
فحزَّت في نفسها كلمات (المفتش) ولكن الرهبة والهيبة التي كانت مفروضة عليهم آنذاك منعتها من التفوه بكلمة واحدة ،فرد أحمد على (المفتش) قائلا له :
_ قل لي الأول إنت بتسأل سؤال عايم ليه؟؟
_ إزاي يا وله سؤال عايم؟ وإزاي تكلمني كده يا مفعوص إنت؟
إنت ماقلتش المواشي دي (عُشر) وللا (صارف)؟؟ يخرب بيت مطنك يا وله جبتها منين دي؟ و أيه الخبرة دي ؟
وأخذ يضرب كفا بكف وهو يقول :
ماجاتش على بالي دي خالص، يخرب عقلك يامتولي عيل يثبتك؟ فضحكت وهي تداري فمها في طرف طرحتها وقالت في نفسها : الله يسامحكم يا ولاد وكأنني لم أشرح لكم شيئا ،نظر لها (المفتش) نظرة شذرة وقال لها : اهتموا بالعيال شوية دول مسئوليتك ياهانم ، وأشار إلى أحمد
قائلا :وخاصة الواد الداهية دهوه.
وخرج غاضبا مغادرا الفصل فنظرت إلى أحمد بخليط من المشاعر وكبتتها كمن حمل أثقال الجبال قائلة :
أقعد يا أحمد أقعد. فقال لها: أنا غلطت ف حاجة يا أبله؟
_ لا أنا اللي الغلط فوق راسي أقعد أقعد .
ومرت الأيام والسنين وهي على هذه الحال كل أخطاء المتعلمين تنسب إليها كأي معلم ،وكبر أبناؤها وحان زواج ابنها الوحيد ؛ واتفقا أن يحيوا حفل عرس كبير ويطعموا أهل البلدة وأجاورها ،على أن يشتروا ( عجلا) كبيرا يكون وليمة الفرح وإذ هم يتشاورون ذات يوم هي وأسرتها ويتجاذبون الحوار سمعوا صوت سيارة وطرق بالباب وصوت أجش يقول :
_ يا أهل البيت ياجماعة ياللي هنا ،خرجت تنظر من الشرفة وإذ
بشاب جميل يرتدي عباءة من طراز فريد ومعه بعض الفتية
وعندما استدار يكلمها وزوجها تذكرت تلك الملامح فبرقت
عيناها ،فنظر لها موجها كلامه
_ إزاي حالك يا معلمتي؟ فاكراني ؟
_ ايوة تذكرتك يا ولدي فين أراضيك؟ اتفضل تعالى أهلا وسهلا
فقال لهما :
قبل أن أدخل اقبلي مني هذا (العجل) اللي على العربية ده هدية مني لفرح ابن حضرتك لأني لما سمعت أن الفرح اتحدد
حلفت إن لحمة فرحه تكون من رقبتي، وجبته من مزرعتي بالوادي الجديد ؛فنظرت لزوجها فاتحة فمها تعجبا :
_ إنت؟ مزرعتك ياما شاء الله !! قال لها :
_ أيوة مزرعتي قولي مزارعي كمان بفضل الله ثم بفضل دعمك ليا وأناطفل صغير أنا مانسيتش حاجة الواحد منا ماينساش أستاذه أبدا ، ولا اللي بيعمله معاه وخاصة فى الإبتدائي ،أنا بحبك يا أمي ومش هانسى لك حنانك عليّ طول عمري؛ فتقاطرت دمعاتها كالدر.
.
التعليقات مغلقة.