” مرافىء الأيَّأم ” قصة قصيرة بقلم/ ربيع دهام
وأخذ يشدُّ رِحاله إلى مرفأ الأيَّام. نحو برزخٍ لا هو بِـبَّـرٍ ولا بِبحرْ.
وراؤه أنينُ الذِّكريات، وهيمانٌ طويل بلا هُدى.
وأمامه حنينُ الأمنيات، واخضرارٌ وراء ازرقاق المدى.
راح يجوب الشَّاطئ المنشود بنظراتِهِ الحائرة.
الصّوتُ مرهقُّ، وصرخات المهجات ثائرة.
أما مِن مركبٍ يعتقهُ من مدن الأحزان؟
مِن متاهة الأبواب التي خَلفُها أزِّقةٌ، والأزقَّةُ التي ما أفضت إلا
لجدران؟
وجهُهُ لَجْلَجَةُ أرضٍ مُنِع عن زيارتِها المطرُ، وعيناه في محجرِ
الخيباتِ غائرة.
كلُّ المراكب بالفراغِ مكتظَّةٌ. كلُّ القلوبِ كالمراكب شاغرة.
يقف. يتأمَّل. ينتظر دوره في الرَّحيل. يا للانتظار الطويل.
يرمق من بين الكثبانِ كائناً غريباً. أهو سلطعون؟
يقرفص في أرضه. يلتقط مجموعةً من الحصى، وقبل أن
يشرع بِرَمْيِها عل الكائن، يتقدَّم خطوتين إلى الأمام وينتظر.
يتحرَّك الكائن باتِّجاهه، ويعود ويمكث.
تسمِّرهُ الدَّهشةُ. لطالما أحبَّ العبث بالسّلاطيع، لكن
أمر هذا الكائن غريب.
فجأة، وبسرعة انقضاض النمر على الفريسة، يجري الكائن
باتجّاهه حتى يصل لعتبةِ حذائه.
وهناك، يبطئ من تحرّكه ويشرع، كعادةِ القطّة المنزليّة، بالخرخرة
والتمسُّح بساقَيْه.
يركل بقدمه الكائنَ بعيداً، فيترنَّح الصغير في رمل أرضِه وينقلب.
أهذا ظهره؟!
يجذِّف بقدميه نحو الكائن. ينحني بحذر. يراقب.
يا إلهي! إنه ساعةٌ رمليِّة بمصباحين زجاجيّينِ، وقد دفعتها الريحُ
باتِّجاهه.
يتفحَّص السّاعة، وبحذرٍ شديدٍ يحملها.
تتراءى له حبَّات رمل تكرج من جحر زجاجي، وتزحف،
عبر الفتحة الضيِّقة. أهذا سبب الخرخرة إذن؟!
وتتساقط حبَّات الرَّمل حتى لا يبقى منها إلا حفنة صغيرة.
ما إن تدخل الحفنةُ عنقَ الزجاجِ الضِّيق، وتتجِّه نحو الجحر
الأسفل، حتى ظنّ أنَّ عمره على هذه الأرض انتهى.
يغمضُ عينيه. يكتمُ أنفاسه. يترقَّب. لا مفرّ من القدر المحتوم.
لكنَّ عدَّاد الزمانِ، ورغم خلاء الجحر الأعلى، لا يتوقَّف.
يتحسّس صدره. قلبه ما زال ينبض. أنفاسه كأمواج البحر تهدر.
لا. لم ينتهِ عمره بعد. والشَّهيقُ والزفير لم يلقيا الفأسَ والمعول.
يعود ويفتح عينيه. يتمسَّك بالسَّاعةِ. يقلِّبها.
تكرجُ حبَّات الرملِ من جحرٍ وتزحف إلى آخر.
وتمرُّ الدقائق، والسَّاعةُ الرمليَّة ما زالت على حالِها.
وتركض الرمال من جحرٍ إلى جحرٍ. ويهرع هو مِن ساعةٍ،
ليسقط في آتون ساعة.
ومثل السَّاعةِ هو الشَّاطئُ. ومثل الشَّاطئِ همُ البحرُ والسَّماءُ
والمرفأ.
فجأة، تصفعه موجةٌ على وجهه، فيترنَّح على الرّملِ كقلعة
ورقٍ تهاوت. وتسقط من يده السَّاعة.
يعلِّي صدره ورأسه. يمدُّ يده ليدفع بجسدِه إلى الأمام، ويزحف
نحوها لالتقاطها.
يرى ملامح وجهه عبرَ بقعة ماء تجمَّعت في حفرة.
يمعن النظر. لا يشاهد إلا غموضاً وظلال.
أهكذا هو؟ لوحةٌ من غموضٍ وظلال؟
لطالما نبذ مرايا البيوت. لطالما نعتها بالزِّيفِ وبالخداع.
مرايا مسطَّحة ذات بُعدَيْنِ، لا تعكس عمق الأشياء،
ولا تظهر إلا ثلثي الحقيقة. ويعود ويحدَّق في بقعةِ الماء.
يرفع رأسه قليلاً، فيرى آثار قدمٍ.
يبحث بناظريه عن القدم الأخرى، يجدها.
وأمامها، يرمق آثار قدمٍ جديدة.
يستقيم. ينتصبُ. يمسح الرَّمل عن قميصه، ويشرع بملاحقه
الأقدام. تُرى أين ذهب صاحبها؟ حبّذا لو يعرف.
وظلَّ يتعقَّب الآثار علَّها تأخذه إليه.
قد يكون توجَّه إلى هناك. إلى مكانٍ ما وراء الكثبان.
قد يكون رجلاً يهيم في الشاطئ يبحث عن معنى الحب، ومعنى
الحياة.
وقد يكون خائباً يهرب من الحبِّ ومن الحياة.
وظلَّ يمشي ويمشي.
“أما مِن أحدٍ هنا؟”، يصرخ. وما يجيبه إلا الموج والهدير.
وبعدها، راح يركضُ ويركض.
وركضَ حتى تلعثمت بقدميه الخطواتْ.
وركضَ كأنّه يلفُّ بركضه قاراتْ.
جبينُه يتصبَّب عرقاً. لعابه يسيل على ذقنه.
أشِّعةُ الشمسِ تحرق جلده. يبلع ريقه. يبلّل بلسانه شفتيه.
يشغّلها كمسَّاحات زجاجٍ علَّها تحميها من التشقُّق.
يكاد يُغمى عليه، لكنه أبى أن يستسلم.
وعلى وقعِ عدّاد السَّاعةِ، بقي يلاحق الأقدام، إلى أن
رفع رأسه قليلاً، فوقعت عيناه على اكتشافٍ لم يكن ليتوقّعه.
ها هي السَّاعة الرمليَّة أمامه. وها هو في المكان ذاته الذي
كان منه قد انطلق!
التعليقات مغلقة.