مراقي الرقي…. بقلم الأستاذ: حمادة عبد الونيس
صح عن نبي الإسلام الخاتم –صلى الله عليه وسلم– أنه قال :”خير الناس أنفعهم للناس”.
إن الناظر إلى سير الحياة بإنعام ليدرك حق الإدراك أن الفردية داء دوي،وعجز وعي؛ إذ إنها تقوم على تضخيم الذات وغلبة” الأنا”والنرجسية الشائهة الممجوجة.
الكون كله قائم على التفاعل الجمعي؛ حيث تدور الحياة دورتها بنظام دقيق يتجلى فيها التوازن الدقيق الذي اقتضته حكمة الباري سلفًا، فجسم الإنسان أعضاء وجوارح، لكل عضو وظيفة لا ينفك عنها ولا يحيد، ولكل جارحة عملها الذي اختصها الله للقيام به، كذلك عناصر التربة وخصائص الطبيعة، لاتجد فيها تنافرًا، إنما تجاذب وانسجام من أجل القيام بدورها المنوط بها. والأجرام والأفلاك والنجوم والكواكب كذلك، وعالم البحار. ينتظم الجميع في نظام دقيق لا يسع العاقل المتأمل إلا أن يصدع بآية القدرة :”ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار”.
إذن الكون في مجمله وجميع عوالمه قائم على المشاركة لا المغالبة، والعمل الجماعي لا العمل الفردي. ولا يحيد عن هذا النظام إلا شاذ؛ ومن شذ فهو في النار كما جاء في المرويات. وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال :”عليكم بالجماعة ؛فإن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية”.
تقدمت الأمم المتحضرة بالاتحاد والتعاون وإنكار الذات والاعتراف بحق الآخر في الحياة الكريمة. ظهر ذلك جليا إبان القرون الخيرية الأولى في صدر الإسلام حيث الخلافة الراشدة؛ فقد استطاع الإسلام أن يؤلف بين الأشتات المتنافرة، ويجمع بين الأعداء المتشاكسين فيصبغهم بصبغته؛ فإذا هم إخوان رأس مالهم المودة، وأركان قوتهم إخوة صادقة وإيثار حكى عنه القرآن العظيم في غير آية.
لقد ضرب المصلحون أروع المثل في إنكار الذات، والاهتمام بأمر الآخرين، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وسار على نهجهم العقلاء أولو الألباب. تجد ذلك ماثلًا أمام عينيك في سير العظماء الذين خلد التاريخ أعمالهم في لوحات الشرف التي تأبى إلا الخلود.
لكن الأنانية داء قديم يتسم به خساس الناس الذين تربوا على موائد اللئام؛ فهم لا يرون إلا أنفسهم، ولا يفكرون إلا في مصالحهم. رداؤهم الكبر، وأنفاسهم البطر والسفه، ورأس مالهم دراهم مجموعة من حل وحرام.
هؤلاء سفلة القوم لا يشاركون الناس أفراحهم ولا أتراحهم. ينظرون إلى الناس من طرف خفي. يبخلون بإلقاء السلام على الآخرين. يحسبون أنهم على شيء ،ولو أصابوا لعلموا وهم موقنون أن شر الناس من منع الماعون.
إنها جينات التيه الممزوجة بالحقد والكراهية، تفضح أصحابها مهما بالغوا في ارتداء فاخر الثياب، وركبوا فاره السيارات، وشيدوا الدور والقصور.
شحهم عار عليهم، يعريهم من الفضائل، ومنقصتهم تجل تراب الأرض يجفوهم وطرائق الليل تهجوهم.
لئام الناس لا يساعدون ضعيفًا، ولا يطعمون جائعًا، ولا يقومون على أمر مسكين. إنهم لا عهد لهم ولا دين.
يتلذذون بالشماتة في الآخرين. يفرحون إذا غلب الناس الحزن.
لكن الشارع الحكيم جعل لأيام دولًا بين الناس. ولقد أحسن أبو البقاء الرندي الوصف حيث قال:
لكل شيء إذا ما تم نقصان ** فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دول ** من سره زمن ساءته أزمان !
اليوم فقر ومرض، وغدًا شفاء وثراء. ولا ريب أن الجزاء من جنس العمل، وأن كل زارع حاصد لا محالة زرعه.
سيذكر التاريخ أهل السخاء. ستكتب سيرهم في الأرض والسماء.
لم ينس التاريخ رجلًا بحجم حاتم الطائي على كفره، بل خلد ذكره في سجل العظماء بعطائه وسخائه.
ولقد خلد القرآن مناقب أصحاب النبي الأبرار الذين لم يخالفوه في رأي ولا قرار.
لا يزال التاريخ يحدثنا عن ابن النفيس، وابن سينا، وابن حزم، وابن رشد، وابن سيده، وابن خالويه، وابن خلدون، وابن دقيق العيد.
مازالت بطون الدفاتر تحوي دررًا وجواهر من أنفاس العلماء الذين قضوا نحبهم في تحصيل العلوم وإفادة البشرية، ومنهم الزهراوي، وأبو ريحان البيروني، والشاطبي، والنووي، وابن كثير، والقرطبي.
خلد التاريخ أسماء إسحاق نيوتن وإينشتاين ولويس برايل وجرهام بل وجيمس وات وآخرين لا يحصيهم عد ولا يحيط بهم حصر !!
البحر لم يشرب ماءه، والأرض لم تأكل زرعها، والأنعام لم تشرب لبنها، ولم تأكل لحومها، والجبال لم تفرط في دورها. كذلكم الشمس مأمورة والأرض مسخرة.
لم يتكبر ويتجبر ويخالف الفطرة إلا اللئام حثالة البشر المعقدون الذين يتنفسون سفاهة وجهالة فرحين بملاليم مجموعة من خدمة أبي عقال أو من أرض مغصوبة مزورة أوراقها، فنبتها حرام سحت يهري أكباد الذين لا يرعوون.
جماع الأمر أن يتدبر الأنذال كتاب الحياة الأكبر، ويسيروا في الأرض فينظروا أين أجدادهم، وأين الذين سبقوهم سفاهة وطيشًا.
إنهم رهائن أجداثهم، محبوسون في قبورهم، لا يخرجون منها إلا ساعة النفخة.
يا ويل من تكبر وتجبر، وجمع لغيره واتبع هواه، وكانت عاقبته خسرا!
سيرحل الجميع ويبقى الأثر
ومن الموت أيها الطغام لا مفر !
وساعتها يردد عميان البصائر:
ندم البغاة ولات ساعة مندم !!
التعليقات مغلقة.