مرثية..بقلم.. عصام الدين محمد احمد
مرثية
أقرفص قبالة القبر، تنتابني الرجفات الموحشة، أستجدي نثار الحوارالمأفون:
كُفنت يوم زفافي إلي الجامعة.
والآن حان وقتي يا بوي.
قلبني صفحات كتاب عتيق:
يحتضن الجبل الغربي القرية، يحتويه بين ذؤابتيه الناتئتين، تعزق القراريط القليلة تمهيداًللبذر، تلهبني حرارة الصيف، أتجول سائحاً، أقبض علي الفأس بيد ناعمة، أجرب العزق، تقبقب بطنا كفي، أهذي تبريراً:
الفلاحة صعبة.
أركن متدثراًظلال النخلة(الصيص)، أطارد النمل، يتراجع لشقوقه ثانية، يهرول شحاته مشلحاً جلبابه، ينفلت ذيل الجلباب، يتعثرفي حفنات(جواليص)الطمي المنثورة ينهض، انتفضت مذعوراً، أرقب دنوه، صاح في وجهنا:
خالكم مات.
أردد كالحكماء:
الموت كأس لا بد من تذوقه.
يغيب عن ذهني مرض أبي، سفره إلي القاهرة للاستشفاء، نغادر الحقل، يحفنا السكون، نركب الترعة المرة، أشوط الحصى، تنتشر الأتربة حولها، يتناجون، أرتاب متسائلاً:
ما الذي يضمرونه؟
تتواري خديعتهم خلف أقنعة صماء، يزكمني الشياط، أهاب جاموسة نافقة، تبرطع، أبتعد عن دائرتها، يرجف قلبي خوفا، نحاذي بيوت القرية الواجمة، ينز البوص المتسخ رماد الوجع، تخلو الدروب، تشوي القيلولة كل الوجوه المحتمية بظلال المسجد، تفح الأتربة الوهج، يجهزون النعش، ينفضون الأغبرة والعوالق، تربكني الحيرة:
أيصلون عليه في مسجدنا؟
كل شيئ جائز!
نتخطي بيت القرشي وطئ الجدر، نردف الزقاق المنتهي بدوارنا، أولاد العم يدفسون رؤوسهم بين أعبابهم، منهم من يتقوقع فوق المصطبة المهتومة، ومنهم من ينتحب، أتملاهم عجباً، لا أفهم شيئا، تصيبني العدوى فأنكس الرأس، أدخل الدوار الواسع، وجوه البيوت كابية، ألامس كومة(الملال)، تهيل بنت العمة حفنات الرماد فوق رأسها مولولة:
لهوي..يا لهوي..يا غورتي..خالي محمد يامة.
أذن لم يمت أبوها.
هكذا أسررت مستنتجاً، تباغتني المشاهد، أتئد الخطو، أعبر العتبة، أتراجع، أنشده، أعبر ثانية، أتقهقر، تتوتد قدماي في الأرض، يبح صوت أمي:
خرابي..يا سواد نهاري..يا صفار ليلي.
أتسمر كالفولاذ، صرت كخرقة بالية متدلية من المعلاق، تلمحني، توبخني زاجرة:
مات أبوك يا فقري يا غراب (الشوم).
تتفسخ أوداجها رقعاً، يناهضني الاحتمال، أغادرهم خائبا إلي المصطبة، أدفن وجهي في عبي متشاغلاً، أتقلقل:
ماذا أفعل؟
أستدرك آمراً:
ضع يديك فوق عينيك تجنباً للفضيحة.
تنده أمي :
تعال يا مقصوف الرقبة.
تعجن(البربيط)، تطين وجهها الممتقع، تجرني الخيبة إليها، تشد قميصي ممزقة إياه، تزعق:
اتنيل..البس السواد..لابس أبيض علي مين؟
أتشدق بالمفارقة:
الموت يجلب الجديد!
تنغمس نائحة:
قعدوا الحزانى تحت الرعريعة
لا شروة لاقيين ولا بيعة.
تصرخ، يفرفر صوتها مسام جسدها، تنهش صدرها تتجمر.
أهرب، ألوذ بحائط المسجد، تفحصني العيون، ترثي مآلي، يترقرق الدمع الفياض في المآقي، نحرني حزازات الصمت الخانق.
ترتدي الأرض- مرتع السمر- جبة الموت المهيب.
تخنع الجاموسة – النافرة دوما- في ذلة.
الكلاب المسعورة وديعة كالحملان تستفزها القطط وهي راقدة لا تقوى حراكاً.
يبرك الجمل مطرحه،ل ا يزبد ولا يرغي، لا تحرك الأتان الحمار، ينعق غراب كالح بلا انقطاع.
شقت الأسعاف الشحوب، تلاحقها سيارات رفقة العودة، تبدل الهدوء صخباً، همهمات، ترحمات، عظات، كبوات، جروح، فجائع، تعاندني الدموع، أنتفض واقفاً، لا أقترب من بطن الأسعاف.
تترأس أمي زمرة النساء، تطّير الزحام،لا أحد يقدر علي زحزحتها، تصر أن تراه، تعريه، تغيب، تغرقها زجاجات الكولونيا، تتشبث به، يدفعونها، تهزمها قوة الرجال، يتبلد ذهني، تجافيني الحواس، حملوه، أنذهل، يتزاحمون لحمله، أتوه، أمام الصفوف وضعوه.
أأصلي معهم؟
تتفصدني الجنابة؛ أهناك صلاة دون طهارة؟
تقدحني الأسئلة:
سيمتطيك العار أن لم تصل، أليس الله غفورا؟
يصلون، يبتهلون، يأتيني صوته الرصين:
لكل أجل كتاب.
تنتهي الصلاة، يمتطي النعش، يطير، أجري حافياً تتداخل الأصوات:
لا إله إلا الله
محمد رسول الله.
إنا لله وإنا إليه راجعون
انزلوه، لا أجروء علي الحركة، تتحجر الدموع، تبخر المقابر الأنات، أرنو بعيون منطفئة البريق، يفتح التربي العين ،ينزل به عمي، يأبى مغادرة القبر، يبكي أمه وأباه وأخاه، يتمتم بالقراءة، صوته الصاعد من أسفل يحزنني، أتجلمد، أتثلج، أتهاوى، يتعالي الهمس اشفاقاً:
سرقته السكينة.
أقعد مواجها الفوهة، ينهد حيلي.
يغلقون المقبرة.
يقتربون مني، أتحلل، يبحثون عني.
أعود إلي سيرتي الأولي؛ حفنة من تراب، يغربلون التراب، تترسب المعاصي، يدلقونها في خشم الرحاية، تزيق الرحاية، تترسب المعاصي.
تمت بحمد الله
عصام الدين محمد أحمد
التعليقات مغلقة.