مسابقة القصة القصيرة بملتقى مبدعي جريدة على باب مصر من ١-١٠ حتى ١٥-١٠
روبابيكيا (قصة قصيرة) بقلم عاشور زكي وهبة
مع انبلاج فجر يوم شتويّ قارس، انتفض له بيت ريفيّ مُتصدّع مَبنيّ بالطوب اللبن، مُكوّن من غرفتينِ يتيمتينِ.
في الغرفة الأولى المطلةّ على شارع هاديء، تتمدّد على حصيرة باليّة أرملة عجوز ضريرة، هي ” أم مخيمر” تتسمّع إلى آيات الذكر الحكيم من مذياع قديم مُتحشرِج خفيض الصوت.
الغرفة الأخرى مسقوفة حتى منتصفها بجريد النخل وعروق الخشب.
ومن الجهة المكشوفة للسماء نهارًا يستند على الحائط مُتضرّعًا فِلق نخل نحيل حُفرت به بضع فجوات لموطيء قدم كسلّم بدائي إلى السطح خفيض الارتفاع.
أمّا ليلًا يتم سدّ الفتحة بأحزمة عيدان الذرة الجافة التي لا تغني ولا تحمي من البرد.
ولقد كانت الغرفة في حياة الزوج ” الطيب” حظيرة لجاموسة وحيدة تمّ بيعها لأجل نفقات علاج الالتهاب الكبدي للمرحوم، واستخراج تأشيرة سفر للابن الكبير “مخيمر” إلى العراق أثناء حرب الخليج الأولى.
أمّا الآن أصبحت الغرفة ملاذًا للابن الصغير اليتيم “عمر” فتًى اجتهد رغم الظروف الصعبة في الاعدادية حتى صار أول دفعته، مما دفع أخوه الكبير مزهوًّا أن يُدخلَه (الثانوية العامة).. لكن ذَوَى الحماس: ” لأن يا أخويه العين بصيرة والإيد قصيرة!”.
وعده الأخ الكبير أن يساعده، ويوفّر له كافة المستلزمات من الكتب الخارجية والدروس الخصوصية شريطةَ أن يعمل معه طوال العطلات الصيفية في صناعة الطوب وإقامة قمائن الآجر في الكفر والبلاد المجاورة. وقال له مُشجعًا ذات ليلة:
_ “يا ابن أمّي وأبويه لو لزم الأمر إني أبيع دمّي لأجل تكمل علام، مش هستخسره فيك”.
واشتغل معه الصغير بيديه وأسنانه؛ لكن ساعة الوفاء بالوعد قال له:
_ ما فيش، يا ليتني أكفّي اللقمة والهدمة يا أخويه.
قالت الأم مُعدّدة :” كلام الليل يا ابني مدهون بزبدة، تطلع عليه شمس الصباح يسيح. واللي ما ليه أب، ليه رب، فرجه قريب!
كان يوجد بالغرفة بعض الأثاث الحقير:
منضدة خشبيّه متهالكة ذات قدم مبتور يتكيء على الحائط المتصدع، وكرسي خشبي ذو مساند حديدية مكسورة الظهر، وطست نحاسيّ أصابه الزنجارُ اتخذه الابن الصغير مسندًا لظهره عوضًا عن مساند الكرسي المنزوعة.
وماجور فخاريّ مشروخ تتخذه البطةُ الوحيدة قنًّا وقت وضع البيض صيفًا، ويستخدمه أصحاب البيت موقدًا لمكافحة البرد شتاءً.
قالت الأم بأسًى: ” هات يا عمر الطشت!
ما عدتش أعجن ولا أخبز بعد ما كنت أفضل خبّازة ف الكفر… ما مِنهوش فايدة”.
قال عمر معترضًا:” لكنه سند لضهري!”
ردّت بأسف والدمع يجري:” سندك ربنا يا عمري!”
وجاء صوت مُشتَري الخردة يصيح بصوت جهوري: ” بيكيا بيكيا.. روبابيكيا!”.
قصة قصيرة من هو؟ بقلم الحمداوي لحبيب المغرب
يقطع الفيافي والصحاري، أشعث أغبر، يصارع الموت، ويساوم الحياة متشبثا بتلابيبها الهشة خيوطها، اتعبته الكثبان الرملية واستنزفت زاده من الصبر، وما يملك من حماس… يستجدي ظل شجرة عبثا والقيظ يفت من عضده…
اصطادته عين راعي إبل،يهيم في البيداء بحثا عن كلإ يسكت قرقرة أمعاء… أسرع نحوه، لبى إشارته وسقاه جرعة ماء…
- ساقتك الرعاية الربانية لإنقادي.
-حمدا لله على سلامتك، هل من خدمة؟ - زودني بالطعام والشراب ودلني على الطريق ؛فقد قضيت يوما وليلة هائما بدون وجهة ،وقد نفد زادي القليل….
وغروب الشمس تراءت له طلائع الديار، جلس يستريح، ها هي تلك الربوة تتذكره بعد غياب، ناهز العشر سنين، حيث كان يرعى شويهاته، قبل التحاقه بالتجنيد، تفرس الآثار والندوبات التي تركتها الحرب وأغلال السجن وألقى ما بدخيرته من آهات…
تدحرج نحو الأسفل، تغيرت معالم القرية غزتها العمارات، قطعت الشجرة التي كانت تنوء بثقل عش اللقلاق الكبير…
هاهوذا يهادن ممرات ومسالك القرية المؤدية لمنزله القابع بين أزقة القرية،أخيرا تحت جنح الظلام وقف شامخا أمام الباب يطرقه. جاءه صوت بنت يستمهل الطارق لحظة…
فتح الباب، وإذا بشابة في مقتبل العمر، وسيمة تسأل، ماذا تريد يا عمي؟ - من أنت؟ ألست علية؟! قالها والدمع ينساب، وحشرجة اللسان تخنقه، ينتظر أن تؤكد له الجواب، فينقض عليها ليحضنها ويطفئ لهيب الشوق لوحيدته وفلذة كبده…
جاء صوت أمها من الداخل، يسأل من الطارق يا علية… حين وصلت الأم ،صكت اذنيها إجابته:أنا عبد الله يا أم علية، تمكنت من الهروب من الحجز في مخيمات العدو، وجئت يحملني الشوق إليكما…ولكن من هو هذا الطفل الذي تحملينه فوق ظهرك؟
قبل أن يغمى عليها، أجابته ،”لقد تزوجت بعد انقطاع أخبارك،ظنا منا أنك استشهدت في المعركة”
ذكريات أكتوبر بقلم محمد كسبة
رحم الله والدي ، كنت لا أمل من الحديث معه عن ذكرياته في حرب أكتوبر المجيدة .
ما زال صوته يجول بخاطري حين كان يغني و ينسجم مع الأغاني الوطنية التي كانت تثير فينا الحماس ، الشجاعة و الإعتزاز بجيش مصر العظيم .
ذات مساء بكي والدي بكاءا شديدا ، فاحتضنته و دار بينا حديث
• ماذا بك يا والدي لا تبكي و أخبرني ماذا تذكرت ؟
• رحم الله زملائي الجنود الشهداء ، قدس الله روحك يا صديقي العزير بطرس .
جاءت عربة الطعام ، و كانت لم تأت منذ ثلاثة أيام ، تجمع حولها الجنود فرحين ، كنت في شدة الإعياء و الجوع ؛ فكلفت بطرس بأن يصرف لي وجبتي معه
فلم يمانع ، تسلم الوجبتين و ابتسم ثم لوح لي بيده .
فجاة أطلقت إحدي الطائرات الإسرائلية صاروخ ، دمر العربة و تناثرت أشلاء العشرين جندي في كل إتجاه ، قطع من اللحم المحروق و العظام المتفحمة ، أمرنا الضابط قائد الكتببة بجمع الأشلاء في بطانية لتحتضنها رمال سيناء .
• رحم الله الشهداء يا أبي و أطال لنا في عمرك .
• تخيل يا أحمد أن الفارق بيني و بينهم بضعة أمتار كانت كفيلة بإنهاء حياتي .
• الحمد لله على كل حال ، الوطن غالي يا أبي و يستحق التضحية .
• نعم الوطن يستحق الكثير .
هناك موقف آخر تذكرته ، بعد اشتباكي في إحدي الطلعات وجدت أحد الجنود يصعد التبه و ينادي باسمي و كنت لا أعرف سوي أن اسمه جابر و كان ضمن الذين جاؤوا بهم من مركز التدريب مباشرة إلى داخل سيناء ، لم يسبق لي التعرف عليه ، تحدث معي بكلمات أثناء صعودنا التبه ( أنا جائع – أنا متزوج جديد – أنا أشعر أني سأموت قريبا ) ، كنت أظنه جاء ليساعدني في إحضار الذخيرة او في الإشتباك مع العدو ، لكنه جاء ليستشهد بجواري بطلقات القناصة الإسرائلية .
• بسم الله الرحمن الرحيم ” و ما تدري نفس بأي أرض تموت ” صدق الله العظيم
مات والدي و ما زالت حكايات أكتوبر تحيا بيننا لنفتخر و نعتز بأبطال مصر الذين استردوا الكرامة و الشرف ، استردوا سيناء الحبيبة و سطروا تاريخ مصر العظيم بدمائهم و بطولتهم .
قلب واحد بقلم أبو مازن عبد الكافي
وعد الجميلة التي تتبدي منيرة كالبدر في ليلة تمامه .
رسم على ظهر مرآتها اليدوية قلب وقسمه بخط رأسي إلى نصفين كتب في أحدهما “وعد” وبجواره في النصف الآخر سعد “اسمه” ؛ وعبر لها عن حبه الجارف بكوبليه من أغنية لعبد الحليم حافظ قال فيه :
عمري ما اتعودت تبقى معايا
و تفكر لوحدك .. عمري
دا احنا الاتنين قلب واحد
دقته عندي وعندك .. عمري من طنطا هي كانت تسكن بجوار منزل عمته ؛ وهو كان من المنصورة .
مرت ثلاث سنوات على خطبتهما حيث كان قد خطبها وهو بالسنة الثانية بالجامعة ؛ وهي كانت في السنة النهائية لمعهد متوسط.
بعدما أنهت دراستها بالمعهد استعجل أهلها وأقاربها زواجها ؛ وسعد لم يكن بعد قد جهز شقة للزواج؛ فهو خريج حديث ومازال لم يستقر في عمل ثابت ؛ وما زالت أمامه فترة الخدمة العسكرية ثم يبحث عن عمل ليستطيع تدبير تكاليف الزواج ، كان الضغط كبيرا عليها ؛ وأكبر وأشد منه على سعد .
في لقاء له بها وسط أسرتها حكت له أمها رؤيا مزعجة رأتها وعد وحكتها لها وهي تبكي؛ قالت الأم :”رأت وعد أن يوم زفافها قد حان؛ وهي قد ارتدت فستان الفرح الأبيض ووضعت الطرحة البيضاء فوق رأسها وأخذها أبوها ماسكا يدها وخرجا من البيت ليسلمها لزوجها فإذا بها تجده شابا آخر غيرك يا سعد ؛ فامتنعت وهي تبكي ؛ ثم نظرت على مرمى بصرها فوجدتك واقفا في آخر الشارع تنظر إليها حزينا ولا تتقدم لتأخذها من أبيها ؛ ورأتك لا ترتدي بدلة الفرح كما يفعل الشباب في يوم الزفاف ؛ وبضغط من أبيها استسلمت وأخذها الشاب الآخر . “
كانت المرآة في يد وعد وأمها تحكي فارتعشت يدها فوقعت المرآة وانفلقت نصفين ؛ جثي سعد علي ركبتيه وقَلَبَ نصفي المرآة فإذا بها قد انقسمت من منتصف القلب المرسوم بالخلف ؛ وابتعد النصفان عن بعضهما ؛ نصف قلبٍ به وعد والنصف الثاني به سعد ؛
انهارت وعد وبكت بكاء شديدا ؛ فقد أحست بأن هذه هي إرهاصات الفراق المحتوم .
لم يمر شهر ويتلقي سعد مكالمة من الأب ؛ قال فيها :”كل شيء نصيب يابني ؛ ربنا يوفقك ؛ أنت المستقبل قدامك ؛ مش عاوزين نضغط عليك أكتر من كده ؛ ولو جهزت نفسك في خلال ستة أشهر من الآن هتبقي بنتنا في انتظارك؛ أكتر من كده ؛ يبقى ربنا يوفقك ويقدر لك ولها الخير”
كان من المستحيل أن يستطيع سعد تدبير نفقات الزواج في هذه الفترة ؛ ففهم الرسالة ورضي بالقدر وفارقها كسيرَ النفسِ ملتاعَ الفؤاد.
التحق بالجيش لأداء الواجب الوطني ؛ صُنف ظابطا احتياطيا ؛ انهمك في التدريب ؛ كان ذكيا نشيطا ؛ شهد له قادته بالتميز والجدية .
أنباءٌ تتردد عن حربِ استرداد الأرض والكرامة ؛ تتوالى وتتردد بين القادة ؛ لكن متى؟! لم يحدد أحد من القادة ؛ الجنودُ والضباطُ كلهم في حالة شغفٍ لمعرفة متى هو ذلك اليوم ؛ والكل يتمنى صدقَ تلك الأخبار لتحقيق الغايةِ والثأرِ من العدو الصهيونيِّ المقيت .
التدريبُ على قدمٍ وساق؛ الوضعُ غيرُ طبيعيٍّ .
- حرب أيه يا عم سعد .. إحنا صابحين رمضان .
** وهو الصيام يمنعنا عن الحرب ياسي على . - قوم ياحضرة الظابط قوم عشان نتسحر ؛ وربنا يعينا ع الصيام .
** هيعينا ع الصيام وع الحرب وهننتصر كمان إن شاء الله وبكرة تقول سعد قالي. - طيب خلاص خلاص يا دفعة أنا آسف متزعلش ؛ أنا كمان والله نفسي ييجي اليوم ده وننتقم منهم ونسترد أرضنا وكرامتنا .
العاشر من رمضان ؛ السادس من أكتوبر ؛ الساعة الثانية ظهرا ؛ معركة الفرقان تبغت الصهاينة ؛ إزالة الساتر الترابي؛ تحطيم أسطورة خط بارليف العظيم؛ جنودنا البواسل يعبرون القنال ؛ سلاح الطيران المصري يغرد في سماء المعركة كالطير الأبابيل ويمهد طريق النصر .
سعد وعلى يتمكنان من العبور مع الجنود ويتسابقان على رفع علم مصر على أرض سيناء الحبيبة ؛ يستطيع علىٌّ الفوز بها ورفع العلم وتثبيته في الأرض الطاهرة ؛ وانطلق يحتضن سعد فإذا برصاصة غادرة تقابله في صدره قبل أن يصل إلى حضن صديقه ؛ فيقع فيتلقفه سعد بين ذراعيه ويبكي ؛
**مش هتموت ياعلي وهنرجع سوا ؛ إجمد ياعلي انا هكتم الدم وهشيلك ياعلي هتعيش يا على هتعيش… اجمد يابطل …
- خلاص يا سعد متبكيش انا فعلا مش هموت لأني هبقي شهيد فهعيش؛ هو الشهيد بيموت !! أنا هعيش عند ربنا يا سعد ؛ قول لأمي متبكيش علىَّ ياسعد قلها ابنك شهيد وبطل ؛ وقول لخطيبتي متبكيش ؛ ومتسبهمش يا سعد ؛ انت مخطبتش لسه ؛ عشان خاطري ياسعد ؛ وصيتي لك أمى و وعد ،
** وعد !! … وعد مين ؟!! - خطيبتي ياسعد ؛ اتجوزها متسبهاش ؛ ولما تخلِّفوا ولد سموه “على” علشان تفتكروني ؛ بالله عليك ياصاحبي لما تروح المنصورة تطمن أهلك تسافر طنطا بسرعة تريح قلبهم من نحيتي وتنفذ وصيتي .
أمي ياسعد … و متنساش ..
وعد … وعد يا سعد …
أشهد .. أن لا… إله … إلا الله …
وأشهد … أن … محمدا…. رسول… الله .
** على على رد عليَّ يا علي رد ياعلي.. علي قوم ياعلي …
ظل سعد يبكي ويصرخ باسم صاحبه على لكن دون جدوى فقد صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها ليحيا شهيدا عند ربه بعدما خضبت دماؤه الزكية أرض سيناء الطاهرة .
بعد عدة أيام عاد سعد إلى بلدته بالمنصورة في أجازة .
…………………
** الله يرحمك ياعلي …
سبحان الله ؛ ما أعجب تصاريف القدر ؛ وعد !!! آهٍ يا وعد آه !!
هل يجتمع نصفا قلبينا اللذان افترقا ويلتئما في “قلب واحد” ؟!!
هكذا حدَّث سعدٌ نفسه وهو في طريقه إلى طنطا .
……………………………
- أبومازن عبد الكافي .
” عبدالكافي فاروق عبدالكافي”
- المنصورة .. أجا .
2/10/2021
غروب القرية الدامي بقلم فاطمة مندي
غروب القرية الدامي
قرية يسودها الصمت، كان كبيرهم أعدل رجال القرية، اكثرهم رزانة اعمرهم شيخوخة، فلا أحد يعرف سبب موته المفاجيء، فمنذ يوم أمس كان يتجول بعصاته الخيزران على تلة الترعة، وعند منتصف الليل سمعت القرية بنسائها ورجالها واطفالها صراخ وعويل من بيت كبير القرية.
في الصباح التحفت وجوه الرجال بالحزن والنساء تخط بأذيال اثيابهن.
السوداء، يتبعون الجنازة إلى مقبرة جبل القرية، ثمة من صلى على الجنازة عندما وضعوها قرب القبر الذي حفروه وسط المقبرة على تلة عالية تعلو قبور موتى القرية.
أجتمعت القرية على كبير اّخر، ثمة من يختار أبن الثري الكبير، واّخر من أختار سعيد الطيب بن المتوفي، أنقسمت القرية، ثم أتفق الغالبة منها على أبن عبد الرحمن.
كان الإبن عبد الرحمن لا يعرف سوى النساء والمال، كان يكره سعيد الطيب كما يكره الحوت الازرق دلافين البحر الابيض..
البسوه عمامة سوداء، وأعطوه خيزرانة غليظة. أمر بخفيرين يجمعوا له كل رجال القرية لبيعته، على كبارة القرية ورأستها، كان سعيد قد لزم داره وأبى الحضور مع رجال القرية أمام قصر الكبير الجديد.
زوجة سعيد الطيب بشهرها السابع، فعندما علم الكبير عبد الرحمن أن سعيد لم يحضر مع رجال القرية، أمر بأحضاره رغماً عنه مجبراً.
لكن سعيد رفض الذهاب، بل زجر خفيري الكبير،
وعند ظهيرة شديدة الحر نام سعيد كعادته قرب الحظيرة، سمعت زوجته أن علي الباب رجالاً يطلبون خروجه، كانوا يمسكون ببنادقهم وعصيهم، وهم ينددون بخروجه من الدار والا يحرقونها،
أمسك سعيد عصا وهم بالخروج لكن زوجته تمسكت به وتيبست راحتيها علي قدميه، ولسمتها بالقبل؛ كي يبايع الكبير كباقي رجال القرية، وراحت تتوسل بأن يبايع عبد الرحمن، تعالت طرقات الباب، وتعالى صراخ الزوجة الحامل، توسط
سعيد في باحة داره وهو يمسك عصاته مستعداً لمعركة اجبر عليها ولابد منها.
وقفت الزوجة خلف الباب بعد أن عزم رجال القرية علي خلع الباب، أمسكوا بجذع نخلة وضربوا الباب الذي كانت خلفه زوجة سعيد الطيب، كي تمنع خروجه أنخلع الباب من كلابيبه، وضرب مزلاجه بطن الزوجة، وقد أخذوا سعيد مكبل بالحبال وزوجته ملئت الدار بدمائها الداكن بالحمرة كحمرة غروب القرية الدامي.
بين ماضين بقلم أيمن عامر فتح الله الملط ـــ مصر
بين ماضيين
جمال أبو الماضى
شاب فى أوائل العشرينات من عمره تخرج لتوه من الجامعة ليبدأ معترك الحياة ويخوض غمارها بتلك البنية الضعيفة التى تحمله وشهادة تخرج اكتشف تدريجيا أنها لا تجدى نفعا بمفردها كى تفتح له مجال العمل وتحقيق الذات فسرعان ما اكتشف أن هناك مؤهلات أخرى يجب أن تتوافر له قبلها وعلى رأسها المعارف ذوى التوصيات ( الواسطة ) ودورات فى مجالات شتى لم يوفرها له تعليمه الحكومى .
تهبط جمال درجات سلم منزله بقدميه الطويلتين النحيلتين عساه أن يعود مفعما بالأمل والبشرى وفى داخله يتردد صوت أبيه عن عائلتهم الكبيرة عددا وعدة وكيف تفرقوا فى الأرض بعد أن بلغ الثراء الفاحش ببعض أبناء عمومتهم حدا كبيرا وكيف بدأوا يتنكرون لهم بعد أن كانوا جميعا يعيشون فى عباءة جده الذى ربى صغيرهم وعالج مريضهم وأكسب المعدوم منهم وعلم جاهلهم ، تحشرجت الأفكار داخل رأسه وهو يقف شاردا على قارعة الطريق تمر السيارات والأتوبيسات فلا يعيرها اهتماما يرتطم صوت ما تختلج به نفسه مع صوت منادى سيارات يعلن عن وجهة سيارته فيبدو غير مبالى ليكمل حديث والده بداخله ـ العلم والتراث يا بنى لقد تمسك جدك بكل أثر وقيمة لدينا لم يرد أن يدنسنا بتحولات الرأسمالية التى طغت على الكثير مما نشأنا عليه ، يقطع أفكاره ليقطع الطريق للجهة المقابلة لتحتك أصوات السيارات وإطاراتها بصوته محدثا نفسه ـ نعم كان جدى مهاب الحضور عالى القامة والهامة يحكم فى المجالس العرفية فلا يرد كلامه يشير بأصبعه فينتبه له الجميع ولكن ها أنا ذا لا أستطيع أن أحصل على وظيفة بسيرته العطرة وتاريخه المجيد ، كل شيئ مادى بحت حتى أبناء عمومتنا الذين تفلتوا من بين يديه بعد أن اكتشفوا كنزا ثمينا بأرض جردا بور كانت لديهم تنكروا له ولتاريخنا ليواكبوا مسير الرأسمالية ، وأبنائهم تنكروا لنا وهكذا صرنا شتاتا فى الأرض إننى حتى أخشى أن أذهب إليهم أعرفهم بنفسى ولا أستطيع حتى التحدث لحارس عقار أو شركة لديهم ، سيبدون الفرح والسرور سائلين عن الأهل والأحباب وفى النهاية يبعثوا بك إلى موظف ما ليبحث لك عن مهنة سائق أو أي شيىئ يسدون به شعور الجفاء الذى صار بيننا .
تثاقلت قدماه أمام إحدى الشركات التى تحمل اسم العائلة ( شركة أبو الماضى لـ……….. ) فابتسم متهالكا وهو يقف أمامها ليخرج بطاقته وينظر فيها متسائلا هل يشفع له اسم ( أبو الماضى ) المدون فيها أن يعمل بعمل مرموق داخل شركات أبنا عمومته أم سيكون مثل سابقيه يحصل على أدنى الوظائف برواتب هشة ليعود إلى منزله ينفق ما جناه على الأطباء ، أم يبدأ بداية جديدة مختلفة معتمدا على وصية جده مستغلا التاريخ العريق لسلف مجيد ، اصطدمت الدوافع بداخله لتعترك معه فعليه الاختيار إما أن يكون ( جمال أبوالماضى ) أو موظفا بشركات أبو الماضى .
أفاق من تساؤلاته وصراعه على صوت صرير سيارة احتكت إطاراتها بالأسفلت فجأة ليطل منه وجه أبيه يسأله :
جمال يا ولدى هل ستعود للمنزل ؟
نفض عن نفسه سريعا أثر الصراع بداخله وتلألأت عيناه الذابلتان ببريق حماسي عجيب وهو يمد يديه يفتح باب السيارة ليدلف بجوار أبيه قائلا :
نعم يا أبى سنعود جميعا للمنزل ـ لا خير فينا جميعا إن لم نعد إليه ـ خذنى يا أبي إلى منزل العائلة الكبير.
وانطلقت بهم السيارة وداخل رأسه انطلقت أفكار كبيرة لحلم كبير تعهد أن يحققه.
…………………………………………………………
مزبلة الدهر بقلم د. إياد الصاوي
( مَزْبَلَةُ الدَّهْرِ ..!! ) .. ” قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ ” .. د.مُهَنْدِس/ إِيَادُ الصَّاوي .. ” مِصْري مُغْتَرِب ” .
عَجُوزٌ هِيَ الدُّنيَا اِخْتَالَتْ بِكْرًا فِي مُكْحَلَةِ الْحُلْمِ ،يَتَسَنَّمُ الذُّرَى نَحْوَ عَلْيَائِهَا غِرٌّ غَيرَ آبِهٍ لِوَادِيهَا السَّحِيقِ ،وَضُرُوعُ الُأَيَّامِ تُدِرُّ الْغَفْلَةَ فِي حُلُوقِ السُّكَارَى ،مُهَجٌ ذَابَتْ فِي كُؤُوسِ الْعَمَى ، وَالْعَمَى عَائِثٌ فِي الْبَصَائِرِ ،مَفْتُونَةٌ تِلْكَ الْجُسُومُ بِوَحَلِ التُّرَابِ ،وَالدُّودُ يَرْقُبُ سَاعَاتِ الْوَلَائِمِ ،وَجَدَائِلُ الْآمَالِ مُرْخَاةٌ عَلى عَاتِقِ الْقَدَر ،وَشَوَاطِئُ الْيَقِينِ عَارِيَةٌ .
فِي نَاحِيَةِ مِن نَوَاحِينَا ..
أَخَوَانِ نَشَأا فِي حِجْرِ رَجُلٍ صَالِحٍ ؛
مَاتَ عَنْهُمَا وَقَدْ خَلَّفَ لَهُمَا فِي صَفْحَةِ الْأَيَّامِ سَطْرًا وَهْاجًا مِن شَرَفٍ وَمُرُوءَةٍ ، وَمِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْمَالِ مَا إِن اِعْتَصَمَا بِهِ لَمْ تَزِلَّ لَهُمَا قَدَمٌ ، وَلَا يُقالُ لَهُمَا عِثَارٌ. .
أَمَّا الأَصْغَرُ فَقَدْ كَانَ عَلَى الْأَثَرِ ،لَا يَزَالُ غِرَاسُ أَبِيهِ يَانِعٌ فِي صَدْرِهِ ، فَرْقَدٌ تَدُورُ حَوْلَهُ النُّجُومُ ، وَبَحْرٌ فِي الرِّيحِ يَمْتَدُّ ، وَنِشِيدٌ طَرَّزَهُ الْوَرَعُ فِي الْأَحْدَاقِ ، شَجَرَةٌ فَارِعَةُ النُّورِ ،زَيْتُونُهَا فِي فَمِ كُلِّ الْجَائِعينَ ،كَنَبِيٍّ شَقَّ صَدْرَ الْمَاِءِ بِالإِيمَان ،عزيزُ النفسِ بالقناعةِ مُعتصمٌ .
أَمَّا الْأَكْبَرُ ، طَوَّحَتْ بِهِ الْعَجُوزُ رَكْضًا فِي فَيَافِيهَا ، كَسَامِرِيٍّ خَذَلَهُ الْخُوَارُ وَالْبَرِيقُ ،مَا مِن شَارِدَةٍ وَلَا وَارِدَةٍ مِن فُجُورٍ إِلَّا رَكِبَهَا ،وَعَلى وَلَائِمِ الْأَيَّامِ يَطْعَمُ الْوَهْمَ ، لِيَتَجَشَّأَ الْفَرَاغ ، مَلَامِحُهُ فِي غُرْبَةِ نَشْوَةٍ ،مُذَهَّبَةٌ كَأْسُ شُّرُودِه ،تُرَاوِدُ عَطْشَهُ عَنِ الْحَمِيمِ ــ وَسُبُلُ الْإِيَابِ مَبْتُورَةٌ ــيَجْرَعُ الصَّابَ مِن أَثْدَاءِ الرَّذَائِل ،وَيَنْخُرُ حَشَاهُ سُوسُ الطَّمَعِ .
يَبْغِي مَا فِي يَدِ أَخِيهِ ، فَأَخْرَجَ لَهُ عُقُودًا زَائِفَةً ، أَنَّ أَبَاهُ قَدْ مَنَحَهُ الْمَالَ كُلَّهُ ، وَلَا شَيءَ لَهُ مِن أَبِيهِ سِوَى اِسْمِهِ .
هَالَ الْأَصْغَرَ مَا رَأى وَسَمِعَ ، مُوقِنًا أَنَّ أَبَاهُ مِنْ هَذا بَرَاءٌ ، وَأَدْرَكَ إِن نَّازَعَهُ عَلَى لَعَاعَةِ الدُّنْيَا ، سَيُحَصِّلُ خُسْرَانًا مِنْ أَيِّ وَجْهٍ ، فَغَسَلَ يَدَهُ مِنْ أَخِيهِ وَمَا أَرَادَ ، وَسَعَى يَضْرِبُ فِي أَرْضِ اللهِ الْوَاسِعَةِ ، وَعَذْرَاوَاتُ الْأَيَّامِ يَتَزَاوَجْنَ مَعَ الضَّوْءِ الضَّرِيرِ ، وَيَلِدْنَ بِلَا حَمْلٍ أَطْفَالَ الْعَجَائِبِ .
اِرْتَحَلَ وَعَيْنُ اللهِ تَكْلَؤُهُ ، نَزَلَ عَلى ثَرِيٍّ عَمِلَ عِنْدَهُ زَمَانًا ، آنَسَ مِنُه الثَّرِيُّ خُلُقًا وَدِينًا وَأَمَانَةً ، زَوَّجَهُ كَرِيمَتَهُ ، لَيْسَ لَهُ إِلَّاهَا ، رَءَاهُ خَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى عِرْضٍ وَمَالٍ ، فَلَمْ يَلْبْثْ أَمَدًا حَتَّى آلَ إِلَيْهِ كُلُّ الثَّرَاء ، فَثَمَّرَهُ وَعَادَتْ يَانِعَةٌ الدُّنْيَا بِيَدَيْهِ ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا .
يَتَسَمَّعُ أَخْبَارَ أَخِيهِ ، وَقَدْ اِنْحَدَرَتْ حَالُهُ ، تَحْصُدُهُ الْعَجُوزُ بِمِنْجَلِهَا ، جَعَلَ عَلَيْهِ رُقَبَاءَ كُلَّمَا هَمَّ بِبَيْعٍ أَنْفَذَ إِلِيْهِ مَنْ يَبْتَاعَهُ حَتَّى اِنْسَلَخَتِ الدُّنْيَا مِن يَدِهِ ، وَآلَتْ بِتَمِّهَا إِلَى مَن طُرِدَ عَنْهَا .
اِرْتَاعَ الْأَكْبَرُ يَوْمَ أَنْ رَأَى الْأُمُورَ آبَتْ إِلَى أَخِيهِ .
وَالْأَصْغَرُ عَلَى الْعَهْدِ ، مَفْطُورٌ عَلَى الْعَفْوِ ، سَجَايَاهُ الرَّحْمَةُ ، تَقَلَّدَ تَمَائِمَ الْوَفَاءِ ، يُنَادِي مِن تَحْتِ عَبَاءَةِ الرَّحِمِ بَحَنْجَرَةِ دَاوُدَ .. أَخَاهُ ، يَحْدُو بِآصِرَةِ الدَّمِ لِيُنِيلَهُ مَا يُرِيدُ ، وَيُذِيقُهُ مِن شَهْدِ الْوُدِّ غَرَفَاتٍ وَغَرَفَاتٍ ، عَسَاهُ يَؤُوبُ إِلَى رَشَادٍ .
مَن يُخْبِرُ قَسْوةَ الْحَيَاةِ أَنَّ لِلْحُبِّ صَوْتَ الصَّلَاةِ ..؟!
وَيَأْبَى عَلَيْهِ ، وَالْكِبْرُ مِلْءُ أَوْدَاجِهِ ، وَصَهْجُ الْفَوَاجِعِ وَالْمَوَاجِعِ لَا يُدِرُّ عِظَاتٍ ،قَدْ جَفَّتْ عُيُونُ حَيَائِهِ وَكَسَاهَا الرَّمَادُ ،سَادِرُ الْغَيِّ فِي مَفَاوِزِ أَضْلَاعِهِ ،يُطَارِدُ رَمْلَ رُوحِهِ الْمُتَصَحِّرَةِ ،يَلْتَهِمُ الْأُفُقَ الْمُضَرِّجٓ بِالْوَهُمِ الْمَشْنُوقِ ،يَجْرَعُ الصَّابَ النَّازِفِ مِنْ أَعْنَاقِ الْخَطِيئَاتِ ،وَلَا يَجْنِي إِلَّا حَوْقَلَةَ الحناجر .
مَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا حَوْلَ مَوْقِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاقِدِ الَّتِي تَجْمَعُ النَّاسَ فِي اللَّيَالِي الْبَارِدَةِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ إِلَّا وَلِأَخِيهِ يَدٌ وَلِسَانٌ ؛ يَدٌ تَنْعَتُ فَضْلَهُ ، وَلِسَانٌ يَشْدُو ذِكْرَهُ ، فَيَمْضِي بِأَذْيَالِ خَيْبَةٍ عَارِيَةٍ .
يَنْظُرُ فِي مِرْآتِهِ ، يُمَزِّقُ الْأُلْفَةَ عَلَى شَوَاطِئِ الْغَرَقِ فِي الذَّاتِ ، وَلِلْمَرَايَا فِتْنَةٌ تَرْصُدُ تَكَسُّرَ الْأَرْوَاحِ فِي تَفَاصِيلُ الصُّوَرِ .
تمثال الحرية بقلم جيهان النجار
جمجمة رجل ،
عقل متمرد
،جسد انثي ،
قلب طفل شريد
مصلوب على راس العالم فوق دكة فى سوق للنخاسة كبير
قالوا : تمثال الحرية مات
مات!!!!!
كشفت عنه دابة نخرت فى صلب. المصلوب فوقع كفه المعصوم بحبال الافكار المنسوجة من شريان مجفف بداخله دماء الشهداء فتصدع سوق النخاسة فى هرج ،مرج
،تعجب ،تساؤلات، استغفار ،ذنوب
فوقف الخلق ينظرون جيمعاً
كأنه متحف للثلج
واقفات تنم عن الدهشة والتيه٠
عنصرية مقيته بقلم أشرف خاطر
( عُنصريّة مقيتة !! ) ” قصة واقعية قصيرة ” بقلم : أشرف خاطر ” مصري مُغترب “
دخلت مسرعاً إلى المسجد ولكنني لم أدرك الجماعة الأولى وقد انتهوا من صلاة المغرب ، وأشار إليّ إمامُ المسجدِ وإلى من دخل خلفي _ والذي لم ألحظه حيث دائماً وجهتي الصف الأول _ لكي نصلي جماعة ، وكان من الجنسية الهندية فأردت ُ تقديمه إماماً لي فرفض بشدةٍ وقدّمني لإمامته في الصلاة ، وتقاطر المتأخرون أمثالنا وتوالوا حتى إكتمل صف ُ كامل ، وبدأت بالركعة الأولى بما تيسر لي من آيات الذِكر الحكيم من سورة الرحمن والتي هي قريبة من قلبي بل هي في قلبي إكراماً لها ، ثم قرأت بالركعة الثانية سورة البروج كاملةً ، وإنتهينا من الصلاة إلا اثنان من المأمومين خلفي دخلا متأخرين ويكملان صلاتهما ، ودخل رجلٌ من مواطني بلد إغترابي ، وكان أسود البشرة _ كلنا من آدم وآدم من تراب _ فسألني : ” هل انتهيتم من الصلاة أم باقي ماصليتم ؟ ” فقلت له أدخل وصل خلف أحد هذين المصليين فهما امتداد للجماعة ، فرفض الدخول ليصلي خلف أحد هذين المصليين _ وكانا من الجنسية الهندية _ وآثر أن يصلي منفرداً ، وبعد أن دخل في الصلاة دخل المسجد رجلٌ آخر من مواطني البلد أيضاً ولكن بشرته بيضاء ، فأشرت إليه ان يدخل ليصلى خلف صاحبنا هذا الذي رفض أن يصلي خلف هندي الجنسية ، فأومأ برأسه ولم يصل خلف أحد مواطنيه من ذات البشرة السوداء وصلى منفرداً ، فقلت في نفسي سبحان الله لقد ردّ عليك الله صنيعك وأبى الله _ سبحانه وتعالى _ إلا أن يحرمك من ثواب الجماعة والتي حرمت نفسك منها إبتداءاً ، سيسأل سائلٌ ما حَمَلك على قول ذلك ؟ أشققت عن صدريهما ؟ قلت ذلك ونشرته للأسباب التالية :
أولاً : عندما رفض المواطن الأول أن يصلي خلف أحدالهنود ، إنتابتني غصة لرفضه وشاركني في هذا الشعور أثنان من جنسيات دول شرق آسيا _ وهم كثر في هذا البلد _ عند باب المسجد حيث تكلما بلغتيهما تعليقاً على مشهد الرفض هذا وعندما نظرت إليهما قالا لي ” هذا صديق مافي كويس ” ، وفهمت لغة العيون ، مما أيد حدثي وشاركاني الشعور الذي انتابني .
ثانياً : رأيت بأم عيني آية من آيات الله في رد المولى سبحانه وتعالى على من في قلبه مثقال ذرة من عنصرية الجاهلية الأولى التي كانت في الجزيرة العربية قبل بزوغ نور الإسلام وهدي نبينا مُحَمد _ صلى الله عليه وسلم _ ، حيث حُرِما المواطنان من ثواب صلاة الجماعة على التوالي ، فأحببت أن أنصح نفسي واياكم بطرح أي مثقال ذرة من عنصرية بغيضة أو كِبر .
ثالثاً ؛ ليس هذان المواطنان بمنأى عن ذكر صنيعهما والتذكير به كما خلّد التاريخُ الإسلاميُ قولَ وصنيع َ الصحابي الجليل سيدنا أبا ذر الغفاري ، مع الصحابي الجليل سيدنا بلال ابن رباح _ رضي الله عنهما _ عندما قال لسيدنا بلال ؛ ” حتى أنت ياابن السوداء، تخطئني ؟ ” فقال له سيدنا بلال : “لأشكوَنك لرسول الله ” _ صلى الله عليه وسلم _ فغضب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وقال لأبي ذر : “أعيّرتَهُ بأمه ؟ ” فقال :” نعم يارسول الله “، فقال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ” إنّك إمرؤ فيك جاهلية” ، فبكى سيدنا أبو ذر وقال للرسول “إستغفر لي ” ، وخرج ناشداً سيدنا بلال ، وألصق خده بالتراب وقال : “والله ما أرفعه إلا أن تطأ رأسي “، فأبى سيدنا بلال وقال : “والله لا أطأ وجهاً سجد لله سجدة” ، فقام وإنخرط الإثنان في بكاءٍ شديد ٍ وتعانقا .
اللّهُمّ صَل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسبحانك اللّهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
اللّهُمّ إنَّا نسألك الإخلاص َفي القول ِوالعمل ِ ، آمين يارب العالمين .
بقلمي والأحداث واقعية : أشرف خاطر
سيامي بقلم أسامة الحواتمة – الأردن
سيامي
دَخلَ فناءَ “قصرِ الكريستال” متجنّبا المعالق الخشبية والصحون الفارغة للجموع المتجمهرين حول القصر.. وبعد جدال شديد مع الحرَّاس… فهموا منه، أنه “إدوارد” أخصائي تربية القطط الذي طالما بحث عنه القنصل “أوين جولد”…
وَثَبَ القنصلُ من مخدعه إلى الشّرفة: -أدخلِوه، أدخلِوه.. وأَبعِدُوه عن تلك الحشود.
مَثَلَ أمامَه “إدوارد”، وطمأنه القنصل ألا يرتبك ولِتهدأ ساقَاه من الارتعاش.. جلس الأخصائي وهدأ بعد فراغِه من المائدة وشُربِِ كمايات كبيرة من الماء..
-ماذا تريد يا سيدي أنا بخدمتك؟
-ألم تنتبه إلى ذلك القط الذي كان بجواري على المائدة؟
-نعم، لقد رأيته هو بالتأكيد قط جميل جدا؟
-لا تجاملني أيها الـ… أعرف أنه جميل، لكنه لا يروق لي كثيرا، رغم أنه هدية لي من “ملكِ سيام” عندما كنت قنصلا في “تايلند”، ومنذ ذلك الوقت وأنا أفكر في تربية القطط، لكن، ألَم تنتبه لرأسِه؟
-نعم، وَ لَدَيَّ الحل فقط أخبرني، ما الذي تريده؟
-أنا لا أحب رأسَه المستديرة، وأيضا ماذا لو كان برأسٍ مثلثة وبعينين لوزيتي الشكل زرقاوين وبأنفٍ طويل، مثقول اللَّون كأنه يرتدي قناع على وجهه وأذنيه، وساقاه والأقدام مُغَلَّفة بكفوف مزخرفة طويلة لا بل كأنها جزمات ثمينة،
ولا تنس أن يكون ذيله ممتدًّا بشعر قصير ليبدو كعجل البحر بين الأزرق والرمادي الغامق، وبطنه.. بطنه أبيض ثلجي وظهره كمعطف عاجي مثلَ شيكولا فاخرة، والظلال كلها بين الألوان كأنها مُزَجت بحليب ثلجي… وَ أَحبُّ أن تكون طباعه حادة وحساس و ردَّاتُ فعله لا يمكن التنبؤ بها.. وأنثاه، نعم، أنثاه أريدها خصبة ولودة، ولا يحب أن يشاركه أحد في علاقته مع صاحبه، وشرساً جدا تجاه القطط الأخرى…
وبعد تجارب عديدة وتزاوج بين القطط وتلقيحات كثيرة قام بها الأخصائي من ذلك القط، لم تكتمل فرحة القنصل ورغم نجاح كل المواصفات التي كان يحلم بها إلَّا أنَّ توائم القطط المولودة كانت متلاصقة!
بدأ القنصل يندب حظه المنحوس ويثرثر أنه يحب القطط ويُحسنُ إليها كثيرا… -كيف لي أن أكون مثل “أبي هريرة” ذلك العربي الشهير الذي قرأت له في كتب حضارتهم التي طالما اتكأنا عليها منذ نهضتنا.
وَاسَى القنصلَ و وَعَده بتجارب أخرى ناجحة، ولكن “إدوارد”،
سرعان ما تذكر جُموع الجوعى في فناء القصر…
العاصفة بقلم فاطمة الجلاوي
العاصفة
في ذلك البيت القديم،
الذي يتداعى للسقوط؛ والذي هزته عاصفة رعدية فأسقطت كتلات
التراب على جانبيه، وكسرت خشب السقف، وبعض حزمات القصب البالي.
في تلك الليلة، التي نزل فيها المطر كسيل عارم، فجرف جل منازل التراب ؛
وسمع عويل النساء وبكاء الأطفال ،
جاء رجال الحي يحاربون سخط السماء؛ بعتلاتهم ،حيث يزيحون التراب المتساقط عن مجريات المياه ؛
في ذلك البيت المتداعي للسقوط، والذي صمد امام الرعد، بدعوات تلك الأم المسكينة التي احتضنت سبعة أطفال وهي تهلل: يالطيف يالطيف يالطيف
في ركن من زاوية الغرفة، تقي أطفالها بظهرها وتغطيهم بشد رأسها، فزوجها في سفر.
في لحظة غفلة، تهاجم المياه باب المنزل وتغرق الحاجيات البالية وسط الوحل؛ والثلج المتساقط يثقل الخشب .
فتنادي المرأة بأعلى صوتها :
الله أكبر.
ويردد الأطفال في فزع وخوف :
الله اكبر
وتحث الأم الأبناء على الصمود، وجمع الثلج المتساقط من فوق السطوح، لرميه على الأرض
هكذا غلبت العزيمة
على الخوف ،
وبدأ الصراع ضد الطبيعة.
بدأت العاصفة الرعدية تخف ضرباتها الموجعة ؛
ولحسن الحظ، لم تخلف خسائر روحية.
استيقظ فيها الحي، بجانب ضواحي المدينة، بدون مأوى.
جل المساكن؛ اصبحت في خبر كان.
فنصبت الخيام على أكوام التراب؛
كانت المرأة غريبة في الحي، تحارب الزمن والفقر، وحيدة مع اطفالها السبعة الذين صنعت منهم نساء ورجال،ا يجابهون الحياة بصمود، فقد علمتهم كيف يشدون على عضدهم في العواصف.
يجتمع رجال الحي لإعادة هيكلة الحي ،
بينما تبقى منزوية في ركن بيتها مع أطفالها السبعة ينبشون التراب المتساقط، ويرمون به للخارج.
هنا تلبس هجر البنت الكبرى قناع الرجل، وتقرر أن تعاند القدر؛
فهي في بدايات المشوار مع حرب الصمود، وتتحمل عبء بناء المنزل لستر الأسرة .
وتنجح في فرض احترام رجال الحي، وهي في عمر الزهور.
وترمم هجر ما خلفته هجر السنين مع والدتها .
فسقف البيت دائما من خشب.
يصمد امام العواصف.
فاطمة الجلاوي
6 اكتوبر 2021
شكرا للاستاذ طه صلاح هيكل
على التدقيق اللغوي
قصة قصيرة شيخوخة بقلم أحمد التهامي قاسم/ مصر/ طنطا
كنت ومازلت أراه يوميا منذ صباي في غدوي ورواحي من ميدان المحطة بمدينتي طنطا، وعند مروري الدائم تحت الكوبري المنخفض الشهير بكوبري (ستوتة) المجاور للمعهد الأحمدي الأزهري للشيخ الشعراوي، والملاصق لمكتب البريد الرئيسي، والمتجه الي حي سيجر والعجيزي والمشفى العسكري وسوق الحكمة.. والمار من فوقه قطارات السكك الحديدية، المتجهة إلي كل البلدان من طنطا إلي القاهرة وأسوان وكذلك إلي الأسكندرية ومرسي مطروح والسلوم، ومن تحته تتسابق العربات المتقابلة إلي ميدان المحطة ومسجد العارف بالله سيدي أحمد البدوي.. وجدته مازال جالسا مقرفصا، وظهره للسور محتميا داخل فتحة ضيقة، تكاد تأوي جسده النحيل جدا، ملطخ الوجه والجلد بالتراب والعرق والطين، بارز العظام طويلة تلك هي أظافر اليدين والقدمين، مملوؤة بطين عفن غامق كطين المجاري.. أراه واضعا بجانبه الكيس البلاستك الصغير به بعض الليمون القليل الأخضر تاركا نفسه وبضاعته الزهيدة تحت أقدام الماره المتوافدين، نحو محطة القطارات الرئيسية ومحطات العربات الأجرة المتجهه إلي مختلف الجهات والبلدان غير عابئ بشيئ علي الإطلاق.
لم أر أحد قط واقفا أمامه ليشتري أو يتفرج أو حتي يسأل أو يساوم، أو يعطف عليه.. ولم أر يده تمتد لأحد بالسؤال، ولم أر يد أحد تمتد إليه بالجواب والمساعدة، ولم أسمع صوته ينادي أو يشير إلي بضاعته المكشوفة الكاسدة منذ أسابيع وأيام، وكأنه يعرف جيدا مقدار نفسه ومقدار كل شيئ حوله تماما، مستسلما لمصيره الغامض المحتوم؛ لزم الصمت والتأمل في ذرات التراب المنبعثة بين أقدام الماره وسط الزحام طوال النهار والليل.
منذ أكثر من عشر سنوات، كنت أراه صاعدا نازلا من عربات الركاب المزدحمة في خفة وسرعة ونشاط، مناديا بصوت جهوري علي بضاعته التي يحملها علي كتفه أو فوق ذراعه في قفة صغيرة قائلا: (بنزار ياليمون).
والآن يرقد الرجل متخفيا بشعره الملبد الطويل وذقنه الكثيف، منزويا في جحره ومخبأه المترب وعشه الضيق المحدود يتفاداه الجميع، وقد عشش علي وجهه وباتت علي جلده علامات الكبر والهرم والعجز المبكر.. لم يتغير أو يتبدل منه شيئا منذ سنوات.. مازال الجاكت القديم (المبقع) مستقرا فوق الجلباب المثقوب الممزق، وحيدا كحيوان أجرب مسكين جاء من عالم آخر.. تمتلئ ثقوب طاقيته المدلاه علي أذنيه بالغبار والتراب الكثيف.. أراه ساكنا في دعه وهدوء وسكون واستكانه.. تعبث يداه أحيانا بفرع ليمون صغير أخضر، وكأنما يستمد منه الحياة والقوة من جديد، أو أشياء أخري تافهه، أو بين أصابعه عقب سيجارة مشتعلة حتي الثمالة.
يفر الجميع من أمامه هاربا مهرولا من تصاعد التراب لأعلي، ومن اختلاط عوادم السيارات المتلاطمة في اتجاهين متقابلين تحت الكوبري، وزعيق صوت القطارات المتقابلة والمسرعة فوق الكوبري.
الكل يتفاداه مسرعين نحو غايتهم المحدودة.. أتأمله من جديد فأتألم جدا.. أجد جسده يجف يوما بعد يوم، يشحب وجهه وتبرز عظامه وتسكن حركاته، حتي أصبح وكأنه تمثال صنع من صلصال فحم أسود، تصطك أسنانه، ويهتز فكاه وترتعش ساقاه وأري الليمون الأخضر القليل بجانبه يزداد إصفرارا وليونه وإنتفاخا، ويكسوه التراب.. والرجل يزداد خمولا وشحوبا وإصفرارا، حتي تشابه تماما مع بضاعته الكاسدة.. وبدأت أشم مع الجميع تلك الرائحة القوية النفاذة الخانقة بالمكان، فلم أستطع المرور من أمامه.
صعدت للمرور من فوق الكوبري والسير علي خشبات هذه الفلنكات، وعلي قضبان القطار أسير مهرولا حتي أتحاشي النظر إليه.. وعند صعودي وقع بصري في بداية الكوبري ناحية الشمال علي طفل صغير يقف ينادي أمام عربة خشبية صغيرة مفروشة بالليمون الأخضر، ومن حوله يقف جمع من المارة يشترون ويساومون والنقود توضع علي العربة، وعند نزولي في طرفي الكوبري جنوبا تقف عربة أخري خشبية صغيرة وأمامها طفلة صغيرة تبيع وتقبض النقود وتضعها في كيس صغير والناس يلتفون حولهم، ثم يتدافعون في طريقهم إلي غايتهم وهم في حالة نشوي وسعادة غامرة وكأنهم في سباق عنيف مع أنفسهم ومع الأخرين؛ أسرعت أفر هاربا من تلك الرائحة النفاذة المتسربة عبر الأجواء والتي مازالت عالقة في أنفي ونظري وصدري وأمعائي.. وأفر من التراب المتكاثف المتطاير في المكان الضيق جدا المزدحم بالماره.. ولم أفق إلا علي فرملة صوت عربة فارهة، وأنا أعبر الطريق وهي قادمة من ناحية فندق (عرفه) الشهير غربا مسرعة تجاه الكوبري، كادت تصدمني، يقودها أحد الأثرياء وبجانبه حسناء شقراء جذابة، تحمل علي صدرها كلبا أبيض نظيفا يمد منخاره من زجاج الشباك متطلعا إلي الماره في غضب شديد جدا، نابحا في وجوههم والحسناء تحتضنه خائفه عليه، متأففه من نظرات الماره المشدوهين إليه في ذهول وتعجب، والكلب يصرخ فيهم يكاد يقفز ليعض السائرين والناس يبتعدون متراجعين للوراء.
تجمدت مكاني حائرا لا أدري إلي أين المسير مندهشا سائلا نفسي، هل حقا توجد جمعية للرفق بالإنسان أسوة بجمعية الرفق بالحيوان ؟!!! وأين هي ؟!!! لتسبقني الخطي إليها قبل اقتراب تلك الساعة ومجئ هذه النهاية المقبضة علي روحي الشاردة دوما من حولي، ونفسي الحائرة البائسة في هذا الكون المجهول والعالم الغريب والبغيض جدا لقيام الساعة.
غيمة داكنة بقلم حميد محمد الهاشم/العراق
كانت عيناه تلمعان،محمرتان وتشعان خوفا وقلقا،الرمشات تتوالى كأن الدافع لها مجنون في عصب مجنون لا يتوقف أبدا،وشىريط المَشَاهد داخل خلايا رأسه يبدأ من نقطة ثم يعود وينتهي فيها،زحام مَشَاهد..تقاطر صور..كل المشاهد يتصدرها المشهد الاخير..الأن هو مشهد أول..خربة وقمامة وكائن جميل تتكدس تحته القمامة.
بعينيه القلقتين ينتظر ما يقوله ضابط التحقيق، والأسئلة وما تَلِدُ من أجوبةتكمن في في الزوايا المعتمة من المَشَاهد..مرتبكا بكلماته التي تشبه الرذاذ..مرة أولى..مرة أولى في الوقوف هكذا..ومرة أولى في قلق هو الأول في شريط حياته كلها..”سيدي لم أفعل شيء”..صدّق..ني.. سي..دي.. لم”..هكذا هي الجملة الأخيرة..فمه أُطبق مع تهدّج الحنجرة..الكلمة لم تخرج ليس عن قصد..أبتعلتها حنجرته..أبتلعها خوفه..أنفاس صدره المرتفعة والهابطة تشي بخوفه..الخوف من شيء ما..أو من شيء لم يقم به كما يدعي هو بالطبع أو من كل شيء سيترتب على اللاشيء الذي لم يقم به..ولم يكن طبعه هكذا طيلة عمره القصير..طفولة وعي متقدم..ووعي طفولي يبحث في الأشياء وتسمياتها..تداعيات ما تؤول إليه تسمية حدثٍ ما..كل حدث..لم يصدق حتى هو أنه هكذا لكنه هكذا رغم أنه ترك ثالثه المتوسط قبل سنوات ثلاث..ما قبل الثلاث وما بعدها قلبه متفتح بالخواطر.. الرؤية لديه خيال وضباب..لم يغادر الرؤية هذه حتى حينما التحق بالطرقات، الأرصفة،..ليصبحا صديقين يتبادلان الكراهية وليس الحب..الأرصفة تحصد من النفس ما تشاء إذا شاء صاحبها..لكنها لم تحصد من روح او قلب هشام شيئا..يدّعي ذلك دائما..يدعي ذلك لزوج أمه والتي في زواجها الثالث قد أبقته معها رغم ضراوة الزوج..ضراوته رغم سكره وتهالكه يدفع بهشام إلى ألأرصفة..طاويا يده بضمادكاذب..مبتورة ومضمومة إلى صدره ،..عاكفا قدمه الأيسر قليلا،وثوب رثّ متهدل الأزرار..
ما تمْنُّ عليه الأرصفة صباحا يكون قوتا في البيت مساءً..ومساؤه للصباح..ثمة أخّان صغيران..الرصيف لم يسرق نباهة ووداعة هذا الجندي الباسل الذي لم يقرر دخول حربه بنفسه..” أنا محارب صغير وهذه معركتي،لكني لا أعرف كيف أكملها أو كيف ستنتهي،أشعرإني أسيرٌ ومحارب في آن معاً، حرب أجهل خططها وأسلحتها لكنني أخوضها وهذا قدري.. وقدر .. وقدر..”
وهنا يتوقف هشام عن السرد ،أيّ قدر آخر ،قدر من ؟
“أبي لفظته الحرب ، حتى الجثمان لم يعد لنا،وأنا الفظ أنفاسي في حرب أخرى،كلا الحربين لا شأن لنا بها ،لا ناقة لنا فيها ولا جمل وفي كل الحربين أنا وأبي خاسران.”
-قدرَ مَنْ قصدتَ يا هشام؟ ..رد ضابط التحقيق متجاوزا مخلفات الحرب من الأباء والأبناء..كان لا بد من شيء ما أن يحدث ،ثمة شىء داخله أشعره بذلك.
ماذا قالت حواسك يا هشام؟ “كان قدري..قدرها.” ثم أطرق برأسه،زمّ شفتيه، ترقرت دمعته ،مسح جبهته بيده اليمنى . في ساحة واحدة لكراج السيارات..أحد طرفي مدخل الكراج كان لهُ والطرف ألأخر لها..في الثالثة عشر من عمرها..هي الأخرى قد غادرت الدراسة كما غادرت طعم الحياة..منذ السادسة صباحا حتى السادسة مساء..طاستها البيضاء فوق قطعة قماش سوداء..،(ليلى)،تتسول في مدخل المرآب وثمة عمل ترفض الشروع به في جوف الليل..ليلى تكره الليل وكانت قد كرهت النهار..لها أبّ راحل إلى بلاد بعيدة ولها أمرأة عفنةالضمير. للتسول كراهيتهُ ولهشام تشابهُ المأساة وحبٌ في السطرالأول من الأيام..هشام الوداعة والنباهة وبداية العشق الأخرس..أحقا هذا؟! لم يصدّق ضابط التحقيق ذلك..لا أحد سيصدّق. “كان سيكون الليل قاتلا لها إن لم.”.صمتَ هشام..حدق في الأرض أسفل قدميه المتربتين..و ذاكرته تقدح.. عليك أن تساعدني يا هشام .
كيف أستطيع.. وأن فعلتها ماذا سأكون؟ أُقْسِم عليك أن تفعل ذلك.
فشلا في المحاولة الأولى في خربة خلف المرآب..في اليوم الثاني للموت أنجزا فشلاً آخرا..خلّف جرحا في العنق وجرحا قرب شريان الرسغ..كان مترددا ولم تكن هي كذلك.. ليلى كانت تخشى قدوم تلك الليلة.. ليل ليلى موت كان سيكون أكثر قذارة وقسوة..أخيرا كان في نصف قناعته ..”ليلى هل أنت واثقة مما تفعلين” ؟ في المحاولة الأخيرة كانت قمامة الخربة كوسادة أو منصة موت عالية..وثمة قطعة حديد ناتئة وسلك يتدلى من البناء المهجور وعلبة من صفيح التنك،أسفلها القمامة لتعطي أرتفاعا أقرب لحديد الخلاص..منصة غير جديرة بأحتفالية الموت كما أن الحياة قمامة غير جديرة بليلى أن تكون منها..
ضُغِطتْ الحنجرة..خيط من البصاق طار من فمها..بعضه سقط على الصفيح وبعضه على القمامة.
صمتَ ضابط التحقيق وقد أحنى رأسه على نجمته في كتفه الأيمن وأبهامه الأيسر يدق بهدوء فوق منضدته كأنها موسيقى جنازئية..تكسر العزف والهدوء الجنائزي عندما هبت ريح عبر نافذة غرفة التحقيق ..خشخشة لحركة الستائر القرمزية مع دمعتين تنحدران من عيني هشام الحمراوين..عينا هشام عبر نافذة التحقيق راحت تصطدم بالسماء و ثمةغيمة داكنة أحتلت فضاء النافذة .
كابوس بقلم إبراهيم مصري النهر
مصر
للمسابقة
كابوس
فيروس كورونا بسمعته السيئة، وشكله المخيف ذي الرؤوس المدببة والمتداول على منصات التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، يغزو حلق زوجي، يقتحم حنجرته ويتهاوى إلى رئتيه، وزوجي: يسعل بشدة، يصرخ، يستغيث، يختنق، يحتضر.
اسيقظت من نومي على هذا الكابوس المخيف في حالة هلع، مفزوعة، أصرخ بأعلى صوتي: لا لا.
وضعت يدي على قلبي أهدهده ليستكين، نشفت عرق جبيني، استعذت بالله من الشيطان الرجيم، ارتشفت جرعة ماء من الكوب الذي على حزينة الأحذية أبلل به ريقي.
كابوس فظيع أطبق على أنفاسي، وأطار النوم من عينيَّ.
أسندت رأسي إلى رأس السرير واستحضرت ما حدث يوم سفره….
استيقظ على صوت المنبه مبكرا؛ مط جسده، وضع يده على فمه متثائبا، جلس على حافة السرير، فرك عينيه ونهض واقفا.
أحضرت له المنشفة، ودخلت المطبخ أعد الفطار.
وقف على مرآة الحوض يحلق ذقنه، يرى تحركاتي خلفه في المرآة.
قال مباغتا لي: تم اختياري ضمن الطاقم الطبي لمحاربة كورونا.
رددت مفزوعة وبالتفاتة سريعة نحوه وكأني لم أسمع شيئا: ماذا تقول؟!
-تم اختياري ضمن الطاقم الطبي لمحاربة كورونا.
-اعتذر، لا داعي، مناعتك ضعيفة.
-لا أستطيع أن أتخاذل عن أداء دوري في هذه المهمة القومية، ما علينا إلا الأخذ بالأسباب، وقدر الله لا يمنعه حذر.
-نعم، لكن..
قاطعني:- لا لكن ولا حاجة، أعدي الحقيبة.
جهزت حقيبة سفره، زرع على جبيني قبلة الوداع، احتضن بناته بشدة، كادت أن تغلبه عبراته وتنسكب دموعه، انتفض واقفا، رفع رضيعته إلى أعلى، ضحكت بصوت عالٍ، حمل حقيبته ملوحا لنا من فتحة الباب الموارب.
هناك، في مستشفى الحجر الصحي أرسل إلينا صوره على الواتساب مرتديا ملابس كورونا الواقية.
يتصل بنا كل ليلة يطمئنا عليه ويطمئن علينا.
أوشكت فترة انتدابه لهذه المهمة الإنسانية والقومية على الانتهاء.. قرب نهايتها أبلغني أنه يشعر بألم خفيف بالحلق وارتفاع طفيف بدرجة الحرارة.
في اليوم الأخير، قاموا بأخذ مسحة من الحلق كعمل روتيني له ولباقي الفريق الطبي قبل العودة إلى منازلهم ومخالطة أهلهم وذويهم.
في الصباح استيقظت على صوت الهاتف: إدارة المستشفى تبلغني بإصابته.
انهرت، بكيت، أصرّيت على زيارته.
اصطحبت بناتي، سمحوا لنا على مضض بزيارة باهتة من خلف ألواح الزجاج العازلة..
حلق فيها بروحه حولنا معانقا قلوبنا.
محكمة بقلم مناف كاظم محسن
العراق – البصرة
في كل مرّة أنصت لكل كلمة ينطقها المحامي, المدعي العام, الشهود, المتهم, مركزاً في الوجوه, اقرأ كل تعبير يعكسه وجه الشخص الماثل أمامي فأجد نفسي مثل رسام محترف يحاول اخراج ما اختبئ في أعماق الوجه الذي يرسمه. أما اليوم فلم أستطعْ فعل هذا, تهت في دروب وجه هذا المتهم الذي كلّما تلاقت عيوننا انقبض قلبي وارتجف كل بدني. لقد ضللتُ الطريق وبقيت في حيرةٍ من أمري. تملّكني حزن عميق وأنا أتذكر وجه أمّي المتعب قبل أنْ تموت منذ سنوات, قالتْ بصوتٍ مرتجفٍ جداً آخر وصيتها لي (بني لا تظلم أحداً, تذكّر دائما أنّ أباك قد أعدم مظلوما, تذكّر ذلك بني.. تذكّر). ثم ماتت وتركت وصيتها مثل حبل مشنقة ملتف حول عنقي, ويقتلني كل يوم منذ أنْ فقدت ضميري. في البداية كنتُ أخشى أنْ أفقده, لكن قساوة الأيام قد جعلتني أتنازل بكل سهولة, معتقداً أنّ امّي سوف تسامحني وتغفر لي أخطائي. لكني لا أستطيع النوم من دون كوابيس تقض مضجعي وتجعلني أشعر بأني ضعيف, هش, ومنكسر. لا أعرف ما إذا كان ذلك بسبب ما فقدته أو ما ربحته. أشعر وكأنني أغلقت نفسي الآن, وصرت بارداً وقاسياً كالحجر, كأن ليس لدي ما أخسره مهما حاولت.
لو لم أكُنْ متيقناً من موت أبي لقلت أنَ الذي يحدق بي من قفص الاتهام هو أبي ذاته, بوجهه الحزين الذي يعكس ضعفه وانكساره وعيونه التي ترفض الذل قبل أنْ يعلن القاضي الظالم حكم الاعدام عليه. لكنه سوف لن يغفر لي ولن يسامحني أبداً. وسوف أظل أتعذب في جحيم نظراته الصامتة طالما يبقى غاضبا مني في قفص الاتهام هذا. لقد أدهش الحضور جميعا وزرع الخوف في قلوبهم عندما قفز من قفص الاتهام متجها نحوي. لم يوقفه أحد. وظلت عيناه تحدق بي بنظراتٍ مخيفةٍ جداً. ممسكاً بحبل متين لم أعرف من أين أتى به. لكنّه لوح به في الهواء راسما أمامي دوائر مرعبة. كان صوت الحبل يثير الرجفة في جميع اعضائي. وضربات قلبي أصبحت سريعة ومرتفعة كدوي طبل أفريقي. وعندما صار قريباً جداً مني لدرجة أنّي قد سمعت ضربات قلبه, أو ربما قد توهمت ذلك, أحسستُ ببلل بين اقدامي.
وقبل أنْ يلف الحبل حول رقبتي ضربت سطح المنضدة بالمطرقة الخشبية ثلاث طرقات صائحاً بصوتٍ مرتفع جداً هزّ أركان المحكمة (رفعت الجلسة).
حفيدة الباشا بقلم متولي محمد متولي
حفيدة الباشا
رغم أن الثورة ألغت البشوية؛ والبكوية، إلا أن زوجتي كانت دائما تزعم أنها من أصول تركية؛ وأن جدها الأكبر كان باشا؛ بل كان من كبار باشوات دمياط قبل الثورة؛ كما تقول أن السنانية كلها كانت من أملاك جدها! ولولا الثورة والتأميم لكانت تعيش اليوم في أفخم القصور!
كنت أضحك كثيرا؛ وأنا مجبر على الاستماع إليها، ولم أكن أصدق حرفا مما تقول؛ فقد كنت أعرف أسرتها جيدا؛ إنهم جيراننا منذ زمن ٍ؛ ويعيشون في منزل قديم مجاور لمحطة القطار؛ وأهلها بُسطاء، وفقراء جدا، مثل أهلي! والعجيب والمؤسف في نفس الوقت أنها كانت تتمادى كثيرا عندما تقترب ذكرى ثورة 23 يوليو أو ذكرى التأميم؛ فكانت تحوّل البيت إلى جحيم؛ فتحرمنا من فتح التلفاز، وكأننا في سرادق عزاء؛ وترتدي ملابس الحداد السوداء! وبدأ الأولاد يقلدونها بتلقائية؛ فأجد نفسي في هذه الأيام وحيدا شريدا في الشوارع، لا أجرؤ على دخول البيت إلا في ساعة متأخرة من الليل!
ربما هي مريضة نفسيا؛ أو أنها تعاني من عقدة ما! لكنها رقيقة؛ مرهفة الحس؛ وتحبني؛ وهذا هو كل ما يهمني! حاولت بقدر المستطاع أن أوفر لها كل ما تريد، لكن هذا العِرق التركي العجيب كان يُفسد علينا حياتنا، فمهما فعلت لن أستطيع تحقيق الأحلام التي تتمناها من كان جدها باشا. كنت مثل ثور الساقية، أدور وأعمل ليل نهار دون كلل، ورغم حرصي على تلبية طلباتها الكثيرة، والتي يفوق بعضها حدود دخلي المتواضع، إلا أنني استطعت أن أدخر مبلغا من المال يُمكنني من شراء قطعة أرض صغيرة؛ فقد كنت أطمع أن أصبح يوما من الأعيان أصحاب الأطيان!
ولأن الأراضي مثل الذهب؛ والمبلغ الذي ادخرته بسيط! لم أجد شيئا يناسبني إلا في منطقة نائية على طريق رأس البر القديم؛ قيراطان – تتوسطهما دار قديمة لا تصلح للسكنى – سأضع فيهما تحويشة العمر، إنهما يطلان على الطريق مباشرة، ذلك الطريق الذي يقع بين ترعتين، ورغم سفلتته، وإشارات المرور المنتشرة عليه، وأعمدة الإنارة ، إلا أنه لا يكاد يمر أسبوع إلا وتقع حادثة أو أكثر؛ لدرجة أن الأهالي يسمونه طريق الموت، هذا ما عرفته من الأهالي وأنا جالس في المقهى أنتظر البائع.
لم يمنعني سماع هذا الكلام، ولا حكايات الموت المريرة التي تفنن الأهالي في قصها عليَّ بعبارات حزينة؛ وعيون دامعة! إنني غريب بينهم؛ وجئت لشراء قيراطين، ومن الطبيعي أن هؤلاء الناس يريدون بث الذعر في قلبي حتى لا أتمم إجراءات الشراء، هذا ما وقع في قلبي؛ فذهبت مع البائع إلى المحامي؛ وكتبنا العقد؛ وأكد المحامي أنه سيتمم التوثيق في الشهر العقاري في غضون أيام.
لم أهتم بما قاله لي بعض الأهالي من أن الأرض مسكونة من كثرة الحوادث التي وقعت قريبا منها؛ فقد كان كل ما يشغلني أن أحفظ المبلغ الذي ادخرته؛ وأن أصبح من ذوي الأملاك! اشتريت القيراطين؛ ولم أخبر أحدا من قريب أو بعيد؛ تكتَّمت الأمر خوفا من الحسد ولم أخبر زوجتي خشية أن تطالبني ببيعهما؛ لأشتري لها ذهبا؛ أو غسالة جديدة؛ أو .. .. إلخ!
ومرَّت الأيام ؛ وحدث ما لم يكن في الحسبان؛ قامت الثورة ( ثورة يناير) وتوقف كل شيء ! ولأول مرة منذ سنوات أعجز عن دفع إيجار شقتي! وانقلب الرجل الطيب البشوش مالك العمارة إلى وحش لا يرحم! فوجئت به يُحضر لي عصابة من المجرمين؛ لطردي أنا وزوجتي وعيالي؛ إنهم يعرفون أن الشرطة، وكل مؤسسات الدولة مشغولة بالثورة والثوار.
في ليلة سوداء؛ هجموا علينا؛ وهددونا بالسواطير والسكاكين؛ وبالكلاب المفترسة؛ ورمونا خارج الشقة؛ ولجأت زوجتي إلى أهلها؛ لتبيت عندهم هي والأولاد؛ ولم أجد مكانا أنقل إليه العفش والأثاث إلا تلك الدار القديمة التي تتوسط القيراطين ! ومن شدة التعب والإرهاق نمت وسط كومة الأثاث الذي أصبح حطاما، كان نوما متقطّعا، رأيت فيه أحلاما كثيرة بعدد كل الأحلام التي رأيتها في عمري الماضي كله! رأيت وجوها مخيفة؛ وأشياء عجيبة ورهيبة! ولكنني كنت خائر القوى؛ ومنهكا بطريقة لا أستطيع معها الوقوف على قدمي َّ! فقط كنت أفتح عيني َّ بصعوبة؛ ثم أغمضهما بسرعة! كنت أحاول أن أميز تلك الوجوه الكثيرة التي تتشكل من دخان ثم تختفي ثم تعود فتتشكل من جديد؛ وكان أحدها يصيح بصوت رهيب، والآخرون يصرخون صرخات مدوية :
- لا تتركوه ينام! أحرقوه بالنار حتى لا ينام!
وكنت بالفعل أشعر باحتراق أجزاء من جسدي؛ لدرجة أنني شممت رائحة جلدي وهو يحترق، لكنني لم أستطع النهوض، ولم أستيقظ إلا في اليوم التالي؛ وبعد أن انتصف النهار، عرفت ذلك من آشعة الشمس التي كانت تتسلل من الخروق والشقوق الكثيرة المنتشرة في السقف والجدران؛ قمت وقلبي يكاد يتوقف من الرعب الذي أصابه؛ وومررت بيدي على جسدي؛ لأتأكد من هذه الحروق؛ فلم أجد أي أثر لما كنت أشعر به؛ ولم أجد أثرا لأي شخص في الدار! قلت بصوت مسموع كأنما أكلم نفسي: - ربما كل هذا مجرد كوابيس بسبب الرعب الذي أصابني أنا وزوجتي وأولادي من المجرمين الذين طردونا من شقتنا بالأمس!
حزنت على الأثاث الذي تحطم، وبكيت وأنا أنظر إلى حياتي وقد تحولت إلى ركام، ولو كنت أعلم ما سيصيبنا لتركنا لهم الشقة؛ ونجونا بأنفسنا وبالمتاع والأثاث. انتبهت إلى أن الدار قديمة؛ والسقف متهالك؛ والجدران متآكلة؛ والأرضية قد نخر السوس ألواح الخشب التي تبطنها، كما أن فيها حفرا استوطنتها الجرذان والحشرات؛
تساءلت بصوت مسموع؛ عسى صوتي يبعد عني شبح الوحدة المميتة :
- كيف سأع
يش أنا وزوجتي وأولادي في هذا المكان الذي لا يصلح لكي يكون قبرا؟!
فكرت في أن أقوم بعملية ترميم سريعة؛ فأشتري مترا أو مترين من الرمل؛ وبضع شكائر من الأسمنت؛ وأسد بنفسي تلك الخروق والشقوق؛ وأُسَفلت الأرضية بالأسمنت؛ ثم أحضر أحدا يقوم بمحارة السقف والجدران، ولكن قبل أي شيء كان علي َّ أولا أن أنزع كل هذه الألواح المسوسة من الأرضية؛ فمن المؤكد أن تحتها جيوشا من الحشرات والجرذان! وبالفعل بدأت في ذلك، كنت حريصا على نزع كل الألواح قبل حلول الليل؛ فلم أكن مستعدا للمبيت وحدي في هذا المكان مرة أخرى؛ ولو اقتضى الأمر سأبيت في محطة القطار القريبة.
غرقت في عَرَقي؛ وملأ التراب أنفي ورئتي َّ؛ ولم أعد أرى من ملوحة العرق الذي يتصبب من جبهتي ويسيل ويملأ عيني ! ذهبت إلى الحمام؛ وغسلت وجهي؛ ثم خرجت لاستنشاق بعض الهواء النقي؛ أشجار الجوافة، والتوت، ونخيل البلح في كل مكان؛ عليها أطايب الثمر؛ قطفت منها؛ وأكلت حتى شبعت. المنظر الجميل حولي جعلني أشعر ببعض الراحة والسكينة؛ واندهشت من نفسي كيف لم أكلف أحدا من الفلاحين بجني كل هذا الخير طيلة السنوات الماضية! كمية كبيرة من ثمار الجوافة والتوت والبلح كانت تذهب سدى؛ أو ربما في الجوار من كان يسرقها! عدت من جديد إلى الداخل، لكن هذه المرة كنت أكثر حماسا وأوفر قوة؛ فأخذت أنزع ما تبقى من الألواح، وبينما كنت أقوم بذلك شعرت بشيء يتكسَّر تحت قدمي؛ وعندما انحنيت لاكتشاف الأمر؛ فوجئت بوعاء كبير من الفخار؛ يشبه تماما ذلك البلاص الذي تحمله الفلاحات في الأفلام القديمة! كان مدفونا في الأرض تحت الألواح الخشبية، وفي داخله لمحت بريقا شد انتباهي؛ ولم أصدق عينيَّ وأنا أرى كومة ضخمة من القطع الذهبية والمجوهرات ترقد في بطن هذا البلاص!
لم تستقر الأحوال بعد في البلد، الثورة طحنت الكثير من الناس، ولا تزال تحطم عظام البقية؛ والكساد الذي أصاب الجميع بالإفلاس؛ جعلهم يشعرون أنهم على أعتاب مجاعة ! لقد سقطت أسماء كبيرة؛ واختفت وجوه كثيرة؛ وظهرت وجوه جديدة لم يسمع عنها أحد من قبل! خرجت من تحت الأرض ؛ وفي وقت قصير ظهرت على هذه الوجوه علامات الثراء الفاحش! في غفلة من أجهزة الدولة التي أنهكتها الثورة؛ انتفخت كروش اصحاب الأعمال المشبوهة مثل تجار المخدرات والسلاح والآثار وانتشرت عمليات الخطف والسرقة ؛ .. .. إلخ
أصبحت واحدا من هؤلاء الذين ظهرت عليهم آثار النعيم دون سابق إنذار؛ وكنت أسمع من حولي يتهامسون، وهم في حيرة شديدة من هذا الثراء، والنعيم المفاجئ الذي أصبحت أعيش فيه أنا وزوجتي وأولادي؛ الجميع يعتقدون أنني أتاجر في آثار بلدي! لم يخطر على بال أحدهم قط أن الأرض المسكونة بالعفاريت كان مدفونا في بطنها كل هذه الكمية من الذهب والحلي ؛ والتي تُقدَّر بالملايين!
بمرور الوقت بدأ الناس يطلقون علي لقب الباشا! ولا ينادون زوجتي إلا ويسبقون اسمها بكلمة ( هانم ) لدرجة أنني بدأت أصدق أنها بالفعل حفيدة باشا؛ وربما تكون هذه الثروة ملكا لجدها الأكبر الذي هرب من مصر أيام التأميم؛ ولكنه لم يتمكن من تهريبها معه؛ فدفنها في هذا المكان !.
متولي بصل
مصر – دمياط
24 / 7 / 2021 م
صداع و صراع بقلم د. جيهان هلال محمد – مصر
مهما احتد الصراع ما بين الخير والشر بين الحق والباطل ومهما ظن الشر أنه علا وأصبحت له الهوية والوجود لكن سيعزف حمام السلام أجمل أغنية للخير والسلام.
" صداع وصراع "
ها قد قاربت من إنهاء كتابة مسرحيتي ….سأخلد للنوم الآن ..احتاج نصيبا منه…فقد أتعبتني شخوصها المتجادلة العنيدة التي لا هم لها إلا إثبات وجودها وهويتها وأنها الحاكم بأمر الله في أرضه.
داعب النوم عيني……………..
.. فدعت بدورها المصباح بالإنطفاء ………. . ما هذه الهمسات؟! همسات تنساب إليّ من بين أسطر دفتري تملأ أركان غرفتي ..كأني سمعتها من قبل… همهمات تعلو وترتفع ….صارت صخب وضجة.. أرهفت السمع ………..دققت التأمل و النظر لأري ما يحدث… من هؤلاء؟!! ……… أهم لصوص يترقبون نومي لسرقة بيتي!أم لسرقة قلمي ونبضي ! أم سرقة نومي…..إن منهم من يفزعني حقا . إنهم يصطفون صفا كأنهم يؤدون أدورا لهم علي خشبة المسرح.
يتقدم أحدهم مرتديا السواد ثوبا ملثم الوجه والهوية يحوط الآخرين يعلو صوته مهددا متوعدا بسعيه لتمزيق الخير والسعي بسفك الدم أن يطأ زهور الأمان ويخمد بيده أنفاس السلام،ويعلو ويعلو صوته فقلبه يشتعل بالخداع والغدر والطمع، معلنا بأنه سيعلو بكبريائه علي رءوس
الضعفاء سوف يريهم ما لم يروه. و تعلو قهقهته كأقوي زلزال مدمر يهز أركان دفتري وحجرتي بل مزق أضلعي . يصمت هذا الملثم فإذا بفتي يظهر مرتديا البياض ثوبا قوي البنيان والبيان يتقدم إليه في شجاعة وجرأة مخاطبا هذا الملثم بأنه مهما علا وعلا ومهما اقتحم الحصون،وغزا المدائن،واحتل النفوس،واستحلل الحرائر،مهما عربد بالفساد وأطاعه العباد فهو هنا لإيقافه وإسكاته فهو الحق والقوة هو العدل والرحمة هو الرجاء هو الدعاء هو المنتظر هو الرضا من رب العباد.يتقدم هذا الملثم الأسود مرة أخري من هذا الفتي
بعد أن أطلق ضحكات كاد صداها يخترق الآفاق يتخطي الحدود والحواجز متوعدا له بالقتل والفتنة والتشريد ومايزال يقتل ويشرد ويفسد حتي يزول هذا الفتي وأمثاله فيموت الحُلم ويقبره ويزرع بعده الخوف. يحمر وجه الفتي معلنا عن غضب وثورة فاقت كل حدود الهدوء وآفاق اللين والوقار…. طالبا منه الصمت والاستسلام فكيف يقتله؟!!! وعلي ساعديه تبني البلاد وكيف يغتال الوحدة والأخوة؟! و كيف يستطيع قتل ضمير الأمة وطمس الشخصية؟!!!
يتقدم إليه هذا الملثم كوحش ينقض علي فريسته حية كي يذيقها الألم قبل الراحة
الأبدية واصفا إياه بغُصن لين سوف يقطعه بالغدر عن أصله وسيقانه سوف يذيقه
الكرب العِظام.
إني أتابع في صمتي ما يحدث رغم ما انتابني من صداع بسبب هذا الصراع
كأني عشتُ هذا من قبل.
بدوره الفتي القوي الوقور يرسل إلي الملثم المُدعِي أقوي الصفعات الكلامية
مؤكدا له أنه لن يستطيع فلا اضطهاد ولا ظلمة ولا تشتت مع النور والرحمة والسلام
والإيمان.
إذا بالملثم الأسود يمسك بيد اثنين…… أحدهما علي يمينه والآخر علي شماله يبدو أنهما
من أعوانه اللذان بدأن بالتقدم إلي هذا الفتي في حضرة الملثم والشر مشمر بأعينهما
يعتصران الفتي عصرا بنظراتهما الثاقبة نحوه حتي العظم .
معلنين في صوت كالرعد في قوته كالريح في حركته بأنهم متواجدون في كل مكان وزمان لآخر الزمان والمكان سيحققون الهوية والخلود.
أشار أحد الرجلين إلي الفتي بإصبعه مؤكدا أنه سيكون سبب المرض الذي يصيب كل أمة
سوف يفعل كل ما في وسعه ليحصل علي ما يريد ،سيتعاون مع كل من يمده بالمال
الوفير حتي لو كان عدوا .
يا لهذا السيئ الذي يكمن في صورة إنسان لا يعرف
الإنسانية
غريب هذا الأمر كأني أعرف هؤلاء المتصارعين من قبل.
الفتي يتابع في صمت لا ينبث ببنت شفة راسخ كالجبل ثابت كالعلم.
فجأة في لمح البصر المعين الثاني للملثم يحيط به ويدور يصدر قهقهته التي أذابت
قلبي هلعا وفزعا ليس من بشاعة منظره فقط ولا لسواد يطل من قلبه ولا لشرر أحمر يتطاير من عينيه ،بل الخوف أيضا من أن تحدث جريمة قتل بسبب هذا الصراع فيقضي أحدهما علي الآخر وفي بيتي فاتحمل أنا مسئولية القضية. وجه هذا الشخص المخيف حديثه للفتي بعد أن أنهي ضحكاته ورسم بدلا منها ابتسامة للشيطان علي وجهه بأنه سيُجري وساوسه مجري الدم فيمن سيقترب من هذا الفتي،سيزين لهم كل طريق يخدم وينصر صاحبه الملثم. يحتضن الملثم الأسود الشقي أعوانه مؤكدا للفتي الطيب أنه سيبقيه بلا عنوان،سيمنع عصافيره من الغناء، سيعزف لحن الحزن علي أوتار القلوب، سيجعل كُتابه يسطرون علي الهواء ،ستبكي المئذنة والمحراب وتنادي أين الصلوات سيزرع الفساد وسيجني الأبناء الثمار.
صيحات وقهقهات…… آه …آه صداع يجتاح نفسي قبل رأسي
يتقدم الفتي القوي البنية والبيان في خطي واثقة ويعلو صوته بأنه يعلم علم اليقين بأن هؤلاء ليس لديهم ضمير ولا دين ولا وطن،……..ولكن مهما علا وارتفع وأعوانه وظن الجميع بانتصاره فلابد من دحر الباطل وقطع يد الفساد الملوثة،سيشعل نبض الأقلام كي تسطر أعذب الألحان فهو السمو والعلو هو البداية والنهاية ،هو اللين والرفق ،الشجن والحنين،النور والهداية،الطفل والبراءة
عونه الرحمن ومن بعده الأخيار وهل هناك بعد هذا العون عون وسند و الفجر الجديد بدأ
صوت ينساب من زجاج نافذتي أنه… … صوت هديل الحمام معه غصن الزيتون يشير للفتي الأبيض أن يردد معه أغنية السلام فهو خير الأعوان .
يلتف الملثم وأعوانه حول الفتي يريدون إخماد صوته وصرعه
صرختُ بكل قوتي كفاكم صراعا الآن….أنا عرفتكم الآن أنتم شخوص مسرحيتي المتجادلة العنيدة التي أرهقتني وأصابتني بالصداع….أنتم حروف علي أسطر دفتري ……….فكيف عدتم إلي الحياة ؟!!!!تريدون قتل الحياة
أنت أيها الملثم الأسود الشر المتجسد وأعوانك الخائن والشيطان ليس لكم مكان …….سأضع نهاية التلاشي لكم
بل محوكم من كل قواميس الكلمات واللغات.
المجد للفتي والعزة للفتي أنه الخير والخير سرمدي مهما علا الشر وسما..انتظرني حمام السلام أردد معك معك أغنية بقاء الخير والسلام هكذا ستكون نهاية مسرحيتي. عاش الخير والسلام…..عاش الخير والسلام
ما هذا إن الملثم وأعوانه يقتربون مني رويدا رويدا يريدون صرعي لا..لا ابتعدوا عني ستنتهون ستتلاشون
يعلو صوت الأذان معلنا بداية الفجر الجديد بصوت رخيم تلاشي معه هؤلاء الأشرار وكبّر الفتي ونادي
يا الله كن للخير معوان. صوت المنبه يدق في أذني اسْتيقظ فالصبح لاح…. فابتسمت ونظرت إلي دفتر مسرحتيي .
الجوار بقلم زكرياء نور الدين – الجزائر
الاماكن كلها مشتاقة لذلك الثقل و الوزن المتخم بنبرتك المتجشئة و القادرة على حملي من نفس الاماكن التي اشتاقت و اشتاق، لعلي كلما جلست إلى طاولة المطبخ لأعد ما أراه مناسبا لحالة السكري خاصتك؛ أرى نفسي و قد اتبعت نفس الحمية التي لازمتك و إياي منذ أن تسقف بيتنا برابط الزواج المقدس.
لا تزال البنات الخمسة قبلة لك و لي، دائما ما أرى فيهن تلك النظرة و الحركات، أرأيت كل هذا الفراغ الذي بمخدعي هذا؛ لا يزال يحمل عبق الفورة و الأمان و الطمأنينة، لا أزال ألبس الأسود، لا تقل لي: الأسود يليق بك. لست أرملة كما تعتقد، أو يعتقد الكثيرون فأنا القوة التي وهبتني إياها منذ أن أمسكت بيدي و أنا على مخاض ابنتك الاولى، لا تزال غادة تقول: لو كان أبي… هل ردَّدْت في غيابات صدرك الأغنية الأكثر شؤما بالنسبة لي “بيلا تشاو” أم انك تعمدت الرحيل، كل الذي يواسيني مجرد هودج و صورة و بعض من الأمان الذي أصطنعه قوة رغم ضعفي، صدقني لا تزال الخيالات تخالج معصم و مرفق يدي و كل ذلك هوى بقلبي لماض لن يعود.
هي هكذا الحياة بعدك لا قبلك، أظن أن الزمن اختصر مسافة العمر و قطع حبل الوريد في ثالث سنة قبل أن يفطم حتى، قبل أن يكمل عمره الافتراضي.
:أي بنية؛ إحملي معك قنينة ماء، بعض الزهر و لا تنسي الإناء؛ تلك العادة الضاربة في القدم، كون السالفين يضعون القدح على دمنة الفقيد ليشرب من ماء عذب نضعه، أو تملأه الأمطار لتغسل به جسدك، أراوغ نفسي و أتصنع الفرح لكي لا أبدي ضعفي للفتيات اللائي أضحين أكبر و أكثر، اتدري أنني قد تعبت، ليس لأنك قد تذكرت مقام الآخرة فهرعت إليه، بل لأنه قد غلبني الشوق و لا اظنه قد يزول، لست كما كنت تعرفني، و لا أنت تعرفني الآن لو تسنى لك الهروب إلي من جديد.
:هل أضع الزهور يا أمي. تقولها الصغرى بكل الضحك، لعلها رأت ذلك في أفلام الكرتون، هي لا تعرف ما معنى كل تلك الترانيم و التمتمات التي أهلَّل بها بين صفحتي يدي، أدعو لك في السر و العلن أن تكون لك الدار الآخرة خير من الدنيا.
: ضعيها هنا و اقرئي فاتحة الكتاب و ادعين يا بنات لأبيكن بالرحمة. أقولها و أنا اجهش بالبكاء ليس على وضعي الحالي؛ بل على الصبايا اللائي عشن بعدك في غربة الأب و فقد الحنان الذي لا أعوضه مهما اقتدرت
: ننصرف الآن هيا.
لا أحب أن أتركك وحيدا، لست كالبقية، هن لا يعرفنك كما انا، و لا يدرين ما المعنى، أما أنا التي لا أزال أراك في جل البشر في وجوههم، ظلالهم و النبرات، فكلما همس أحدهم ترقبت صوتك فما بالك بحكايا الناس و ضوضائهم، الغد أفضل بحول الله أعلم ذلك و لطالما قلته لي، لكنني ارى فيه نفاقا و كذبا كيف لا و انت الغائب الحاضر، لست انقم الأقدار؛ بل اوفر على نفسي بعضا من القوة التي تركتها لي يوم أن غطاك الرداء الأبيض في تلك الصالة الرحبة، لم تحرك ساكنا و لم تهمس ببنت شفة، كان النسوة يعصبن رأسي و البعض منهن يلعن حظي، لكنها المأساة بعينها لم أشأ ان أخبرك بذلك؛ لكنني اتوجع بصمت، أبكي بسكوت، أضحك بقهر، صدقني؛ أنا ابكي الساعة كما لم تراني من قبل، لعل الابتسامة ستُصنع كما الأحزان، ارميك الأن بباقة زهر هي الياسمين من قلبي و الريحان بنعشك، ربما في المرة القادمة أحضر معي مسجلا و أضعه على لحدك علك تخبرني فيه عن بعض ما يخالج فكرك و انفاسك التي انقطعت مع آخر رمس فوق ترابك، انا أمضي الآن: هيا بنا حان وقت الدخول.
لكن هل لي بسؤال: هل لا يزال الكفن الأبيض يدفيك؟.
أرواح معلقة بقلم عبد الرحيم خير/ مصر
أرواح معلقة
أسمعُ قرقعة الأواني بالمطبخ، أستيقظ فزعا على أصوات زجاج يتحطم وطناجر تتطاير وترتطم ببعضها..
عشرات المرات طلبت منها أن تترك تلك العادة المقيتة.
تقول: بالليل يكونا نائمين.
أضحك بغضب: لا تجعليهما حُجتك، هي عادتك منذ أن تزوجنا لم يتغير شيء.
في كل مرة أسألها: ألا تفكِّرين براحتي، وأنا أستيقظ فجرا، ولا أعود إلا في المساء.
تعتذر وتطبع قبلة حانية على خدي، تغمز لي: لن تسمع أي صوت، تغلق الباب خلفها وتعود لتكمل جلي الأواني والتنظيف، وبمجرد أن تصل إلى المطبخ يعود صوت الزلزال.
أنظُر لهما في السرير المجاور هانئين يبتسمان، أقبلهما قبل أن تأتي وتعنفني.
لاتوقظهما لقد أتعباني حتى ناما. لا أستطيع مقاومة هذه الابتسامه التي تزين وجهيهما.
كلما سألتها: كيف يضحكان وهما نائمان؟!
_ تُضحكهم الملائكة، لكن حذار أن تلمسهم بقي الكثير من الأعمال، تَفقّدهم من بعيد.
رُزقنا توأمـا بعد سنوات حُرمنا فيها الذرية، منذ أن تأكّدتْ من الحمل وهي تعمل حساب كل شيء لراحتمها، تَبَدّل نهارها ليلا، وليلها أصبح نهارا، كل أعمال البيت تكون بالليل؛ تَنْظِيف المنزل وجلي الأواني والترتيب، حتى الطعام صارت تطبخه ليلا، لأسبوع كامل وتخزنه بالفريزر، كي تتفرغ لرعايتهما طوال النهار.
( عمر ) يشبهني كثيرا كأنه وجهي بملامح صغيرة، كلما نظرت لصورتي طفلا ونظرت لوجهه رأيت هذا الشبه الكبير بيننا، و(جنى ) كانت بجمال القمر كنت أحب النظر لوجهها ومداعبتها، عيناها الخضراوان وشعرها الأصفر الحريري، وبسمتها التي تشبه أيام الربيع، كأنها نسخة من أمها،
بسمتها تكفي لتنير أيامي وتنسيني تعب أيام طوال من الحرمان في انتظار من يُسمعني كلمة بابا.
في الأيام الأخيرة ومع هذا الوباء كانت تشدد علي دائما.
عند عودتي:
اترك حذاءك بالخارج قبل أن تدخل، احذر أن تلمس شيئـا، عقّم نفسك، وفور دخولك اذهب إلى الحمام، ثم تكررها (وقبل أن تلمس شيئًا).
مساكين صغاري مناعتهم ضعيفة، وهذا الوباء لايرحم.
وفي الصباح:
أياك أن تنسى الكمامة والمعقم، لانعلم من تقابل أو تخالط في الطريق والعمل.
تهتم بأدق تفاصيلهما تخشى عليهما من كل شيء، حتى مني أنا وكأنهما أبناءها وحدها.
ِِِلاتتوقف عن إصدار التعليمات: احملهما برفق، لاتقبلهم في فمهم، ذقنك يُشوّكهم احلقه.
كانت تحتاط في كل شيء وتبالغ كثيرا في حيطتها، زيارات الطبيب أصبحت ضمن عاداتها المقدسة، تراجعه في كل شيء، زاد الأمر عن حده وأصبحت الزيارات متكررة، في البداية كنا نذهب جميعا، أخيرا وزيادة في الاحتياطات خاصة مع انتشار العدوى، اتفقنا أن تذهب هي مع عمر مرة، وأذهب مع جنى مرة أخرى، تقول: لو أصابنا مكروه _ لاقدّر الله _ لانتضرر جميعا.
هذه الليلة كنت احتضن( جنى) كانت مضطربة على غير عادتها، بكاؤها لم ينقطع طوال الليل، بمجرد أن غفّلت عاد صوت الزلزال، مضت أيام طويلة ولم أسمعه، استيقظت فزعا وجدتها تدور عابسة في المطبخ، تسمرت مكاني، كاد قلبي أن يتوقف، أخبرتني أن عمر يبكي بفراشه بشدة، أكيد بسبب تلك الرضوض التي أصابته في الحادث وقت ذهابنا للطبيب، كم مرة شددت عليك أن تعتني به ولاتتركه يبكي، كم مرة أوصيتك به، لاتهتم إلا ب( جنى) قالتها بحزم ونظرت إليّ نظرة أقشعر منها جسدي خِفت بعدها أن أخبرها أن( عمر ) لحق بها بعد أيام من هذا الحادث الأليم.
عيش مر أسماء عبد الراضي محمد / مصر
“الرغيفُ في بلدي أصبح أغلى من الذهبِ” هكذا قال العمُّ عامر يوم أن رَهنَ قِرطَ زوجتِه؛ ليسدّ جوعَ أبنائه الخمسة.
أعافرُ بروحِ شريفٍ يرى في الاستسلام عيبا وعارا، أزاحمُ الحشود بجسدٍ نحيلٍ يمطرُ عرقا في عزّ الشتاء، أصارعُ بذراعٍ واحدٍ، بعد أن كُسِر الثاني منذ شهرين في صراعٍ مشابه، ضياع حصّتي من قافلةِ المساعداتِ يعني جوعي وأمّي القعيدة أسبوعا كاملا، علمتني الحرب كيف أحصل على ما يسد الرّمق..!
سئمت يا وائل، هل ما زلت تعتقد أننا أحياء؟! لا يزال النبض باق يا صديق، يظل الأمل ما ظل النبض في الوريد.
أسلي صديقي رحيم، أمسى وحيدا بعد أن تغيّب والده منذ عام، لكن أخبارا ترددت عن اعتقاله في أحد السجون، بعد أن فقأ عين مرتزق في إحدى المظاهرات، أسليه بينما تتحرش براثن اليأس بأوصالي ليل نهار، أقاومها ما استطعت، فكرت غير مرة في النزوح إلى أي بلد مع جملة النازحين كل يوم، إلا أن جزءا من روحي يراودني على البقاء، أو ربما طيف أبي السجين يؤنبني كلما انتويت الهرب.
قبل ثلاث سنوات، سُجِن أبي، جنى عليه لسانه كما تقول أمي، هي تكره السياسة وتكره سيرتها، يوم أن جاء أحدهم؛ ليعلن عن برنامجه في مؤتمر عقده على حساب دمائنا، حاولت أمي – التي تخبر زوجها جيدا- منع أبي من الحضور، لكنه ذهب لقدره..!
يحرصُ العمُّ حمدان -جارنا المثقف -على متابعةِ أخبارِ العالمِ من حولنا، رغم ضعف بصره وقِدَم نظارته، إلا أن نهمه للقراءة لم يقل، يعلق جمال -حلاق الحي- متهكمًا:
ألا تكفيكَ أخبارنا يا عم حمدان؟! ارحم صحتك من جرعات البؤس اليومية. أضفت مؤكدا: العالم تخلّى عن سماعنا، لا تفرق معه أخبارنا، ما حاجتنا إلى معرفة أحواله؟!
ينهمك العمُّ في مطالعةِ الخبرِ بشكلٍ ملفتٍ، بعد أن أنهى قراءته، قصّ علينا ما قرأ.
_ ساعة كاملة أبحثُ عنك يا رحيم!
وهل الأمر هام إلى هذه الدرجة؟! ألا تريد أن يخرج أبوك من سجنه؟ ها .. حدد أنت أهميته الآن.
قصصتُ على رحيم ما أخبرنا به العم مسعود من أمر الأسرى الذين فروا من سجن الاحتلال في بلاد الزيتون.
ولكن… هل يستطيع أهلنا يا وائل؟ أعتقد أننا نملك من الملاعق ما يكفي، نحتاج فقط إيمان أولئك الأحرار وعزيمتهم!
ما رأيك أن نعرض الأمر على من نثق بهم من أهل الحي؟ في دكان العم مسعود، جمعنا من نثق في إخلاصهم، ثار الحماسُ على استحياءٍ في العيونِ، اخترنا أحد السجون، حددنا من سيخبر أهلنا في زيارة نرتبها بأي شكل، قبل الاتفاق على آخر التفاصيل، سمعنا جلبةً أمام الدكان، صوتٌ مألوف للجميع بدأ يتصاعد، إنها قوافل الإغاثة أتت اليوم مبكرا على غير عادتها، في غمضة عين انفتح الباب، وانفض الجمع من حولي، انتبهت على صوتِ رحيم، يصيحُ وهو يهزّ ذراعي بعنف: إلحق بنا، لا تتأخر كثيرًا، إن تحملتَ الجوع فلن تتحمّله خالتي المسكينة..!
مضمار بقلم عبدالله عبدالإله باسلامه.
مضمار .
حين تشير الساعة إلى السابعة وعشرين دقيقة أتجه نحو النافذة تلقائيا، هاهو يعبر باب المدرسة، بخطوات رياضية رشيقة وسريعة، يعلن عن وجوده بإطلاق صافرة يهرع لها الطلاب، يلتفون حوله يسلمون عليه يداعبهم، يناقشونه حول نجوم الكرة، والأندية، وموعد المباريات…يذكرني بنفسي حين التحقت بالمدرسة لكن علي الإعتراف بأنه يملك من الشغف اضعاف ما كنت امتلكه، ينظر إلى ساعة يده يأمرهم بالاستعداد للطابور، ويجري نحو الإدارة .
- صباح الورد يا مدير .
- صباح الخير يا أستاذ.
- معنا اليوم مفاجأة.
- خير إن شاء الله!
يلتقط الميكروفون ويغمز لي بعينه: - بعد الطابور ..هل تريد أن توجه كلمة اليوم أو..
- ولا حتى حرف واحد.
يطلق ضحكة قصيرة، ويواصل طريقه نحو المنصة، ليحيل الطابور إلى شعلة من الحماس والمتعة لا شيء يبدد كآبة صباحي، وحموضة معدتي،ويجعلني ابتسم مثله، يدهشني نشاطه وحبه للطلاب، ومقالبه الطريفة التي تخلق جوا من المرح افتقدناه منذ فترة طويلة بسبب الحرب والحصار، حتى انقطاع الراتب منذ سنوات لم ينل منه، أو يفتر حماسته كما فعل بي، وببقية المعلمين الذين أخذوا يتغيبون كثيرا، كان آخرهم معلم القرآن الكريم الذي فاجأني بشرائه تكتوك .
أتذكر يومها وعلى اثر الشجار أني التفت نحوه :
- وأنت يا كابتن حسام، يا مسؤول الأنشطة متى ستفتح دكان؟ أو تشتري عربة خضار وتترك طلابك ؟
فاجأني بهدوئه :
- أنا أعتبر نفسي في هذا الوضع السيء في سباق ولازم أفوز، يعني اطمئن فأنا مثل أي عربي صامد .
كدت انفجر في وجهه ظنا أنه يسخر مني،لكن جديته، والطريقة التي تحدث بها جعلتني احترمه، وأكن له الكثير من الامتنان، كونه أحد الأسباب القليلة لصمودي أنا في المدرسة حتى هذه اللحظة .
سريعا ما انتهى الطابور ليعود ركضا :
- اتفقت مع المدرسين على تأخير حصتي اليوم إلى الحصص الشاغرة بعد الراحة.
شعرت بمرارة في حلقي وأنا أرمق علامة إكس على خانتي الحصة الخامسة، والسادسة في جدول الحصص المعلق على الجدار :
- لا تقل لي معاك مقلب جديد.. أنا خايف تعمل لي مشكلة مع أحد المدرسين .
- ههههه لا مقلب ولا حاجة مجرد مفاجأة ل(أبو بكر)أنت عارف أن موعد السباق اليوم .
- إذا كان على هذا فقد فعلت خيرا .
شعرت بالارتياح لنقل حصة الألعاب إلى آخر الدوام، ليس بسبب أن المنافسة النهائية بين طلاب الصف السابع في سباق المائة متر ستقام اليوم؛ بل بسبب صوت (أبوبكر) الجهوري الذي يشد حماسه انتباه الطلاب إلى خارج الفصول، ويملأ ضجيجه ساحة المدرسة،والذي يحرص كثير من المدرسين على حضور أوقات التمارين، أو دقائق السباق ليشاهدوه وهو يشجع ابنه (بكر) بغرابة فيقفز، ويضرب الأرض بقدميه، وينفعل بطريقة تغرقهم في الضحك وتكون تلك اللحظات حديث الأسبوع كله.
في البداية كان سلوكه يثير استيائي نظرا لتفاعله الغريب الذي يدفعه للتدخل في كثير من تفاصل عمل الكابتن الذي تقبل الأمر ببساطة كعادته، ومع اقتراب نهاية الحصة الرابعة تذكرت كلماته وأنا أرى الرجل يحمل كيسا من الجص، ويبدأ في تخطط المضمار بدقة واهتمام كبيرين كأنه يعد لسباق دولي”هذا الأب يعيش حلم الفوز وسيحققه مثله مثل اي مكافح في هذا العالم المسحوق ” .
قرعت جرس انتهاء اليوم الدراسي، ليتدفق الطلاب إلى الساحة، ويشكلوا حلقة مستطيلة، أما المدرسين فقد اصطفوا عند خط النهاية جوار أبوبكر.
قبل إطلاق صافرة البدء أعلن الكابتن عن تقسيم المتنافسين إلى مجموعتين، وأن (بكر) سيشارك مع المجموعة الأولى والثانية على التوالي،تبادل المدرسين الإبتسامات، وصفقوا بحرارة، أطلق الأب تكبيرة قوية (الله أكبر)، وعلى صافرة الكابتن انطلق المتسابقين بكل قواهم، فيما تركزت الأنظار، وكاميرات الهواتف على الأب الذي أخذ يصفر، ويقفز، ويطوح بالشال بحركة دائرية ويهتف :
- هيا بكر أنت الاول.. أنت الاول.. هيا هيا بكر هيا هيا.
أخذ المدرسون يشاركونه الهتاف : هيا بكر أنت الأول.. هيا بكر …
مما زاد من حماسة الرجل، وحماسة الولد الذي بذل جهدا كبيرا إلا أنه تعثر فجأة، وتدحرج مرتين قبل أن يستقر في وسط المضمار ممسكا بقدمه وهو يصرخ من الألم، كان الأب أول من وصل، واسرعت مع المعلمين، ثم الطلاب لنتحلق حولهما، جثم الكابتن بجوار الولد يتفقد قدمه، قال أنه أصيب بالتواء في كاحله، ثم حمله وسار به نحو رصيف الممر ليسنده إلى أحد الأعمدة، وأخرج من جيبه ضمادة رفيعة راح يلفها بحرص، ثم اتبعها بالشال حتى تشكل له دعامة مؤقتة.
شعر الجميع بالأسى على الولد وعلى أبيه الذي امتقع وجهه، وبدا في حالة يرثى لها من التأثر والقلق، فاخذوا يشجعونه ويواسونه، فقررت أن أعيد ترتيب صفوف المتسابقين ريثما ينهي الكابتن ربط القدم .
لكن ما إن وصلت إلى خط البداية حتى شعرت بقلبي ينخلع من صدري؛ فرغم الصخب والضجيج حولي إلا أن هديرا مرعبا طغى على المكان، لطالما سبب لنا الخوف والأرق منذ بدأت الحرب وتحول صخب الطلاب إلى صرخات فزع ( طائرة طائرة ).
التعليقات مغلقة.