مستقبل غامض بقلم.. سيد جعيتم
ينادي عليَّ زوجي:
ـ ما تنسيش تلبسي مريم تقيل، الجو بارد.
قمت وأنا شبه تائهة فقد حان اليوم الذي أخشاه.
منذ نفذ السهم المسموم داخل بيتنا، وخيبة الأمل ووحشة الفراق تظلنا، كسا قلوبنا ألم صامت وحزن دفين.
يحاول زوجي التماسك رغم الصدمة التي تلقيناها، ورغم شروده والحزن الذي يكسو وجهه، مازال يعطي ابنتنا نفس الحب، نحت بسمة على وجهه يسري بها عني، لاحظ خجلي من النظر في عينيه، رفع رأسي بيده ونظر في عيني وقال:
هذه إرادة الله، علينا تقبل الأمر.
يالنبل هذا الرجل.
خجلت أن أرتمي كعادتي في حضن حماتي سعت هي إلي واحتوتني في حضنها، يا الله كنت في حاجة لهذه الجرعة الصادقة من الحنان، قالت:
ـ ناوليني حفيدتي.
حملتها وراحت تقرأ المعوزتين وترقيها، قبلتها، أعرف أنها تبكي في صمت، قمت إليها مسرعة لأسري عنها ، اختلطت دموعنا.
فلذة كبدي تبتسم لي بوجهها الملائكي أمسح بيد مرتجفة على رأسها، لا أعلم ما يخبئه لها القدر، مازالت كلمة ماما تخرج من فمها العذب غير مرتبه، تناديني:
ـ مما.
يا إلهي هل سيسقط معبدي، وهل يمكن أن يأتي يوم أُحرم فيه من وجهها الملائكي؟، أدعوك يا ربي أن يكون ما نمرُ به حلماً نستيقظ منه، لم أعد أحتمل هذا التشتت المؤلم ساعدني يا الله.
أسئلة أبحث عن إجاباتها تدور في رأسي:
ـ(كيف سيحل الشرع هذه المعضلة، وما هو موقفه مني؟، هل أعتبر خاطئة رغم أنه لا ذنب لي، وكيف تستقيم الحياة مستقبلاً بمريم وأبيها غريب عن أمها، كيف يا ربي كيف؟)ـ.
كاد الجنون أن يصيبني، أنهار رغماً عني، انتزعت من أحزاني إجابة أطمئن بها زوجي الذي يتعجلني:
ـ أنا بخير، سأكون جاهزة خلال دقائق.
احتضنني، بكيت على صدره، حاول أن يغالب دموعه، أخذ ابنتنا ذات الربيعين من عمرها في صدره قبلها، فضحته مشاعره، لم يتمالك نفسه و انهمرت دموعه، راح يجفف دموعي ثم أخبرني:
ـ اتصلت بي معدة برنامج الحقيقة من التلفزيون، وقد حددتُ لهم موعدًا لزيارتنا.
ـ لماذا وافقت؟ يكفينا ما نحن فيه.
ـ قد نستطيع عن طريقهم تنبيه الناس فنجنبهم الخلط الذي تسبب فيما نعانيه.
من يوم الخبر المشئوم لم يعد للحياة طعم، فشلت الأدوية في منحي بعض النوم.
شريط الذكريات يستعرض نفسه داخل رأسي.
أهل زوجي ينتظرون حفيد يدخل عليهم الفرحة، يرددون على مسامعي :
ـ اتجدعني هاتيلنا حفيد، يكون امتداد لأبيه.
طرقت أبواب الأطباء، أجمعوا على عدم وجود أي موانع لدي للحمل، طلب الأخصائي إجراء فحص السائل المنوي لزوجي.
رفض زوجي بشدة، فرغم تعليمه العالي تغلب عليه صعيديته مثل كل أهل جنوب مصر.
حماتي أم طيبة ومحبة، في زيارتنا لها بالقرية طلبت أن يراني أحد الشيوخ المشهورين، أشار زوجي بطاعتها فلن نخسر شيء، ورغم عدم اقتناعي بالطقوس التي ستجعلني حماتي حقلا ً لها ، إلا أن الأمل وغريزة الأمومة الطاغية جعلا الأفكار تختلط في رأسي، وتصارع المنطق والخرافة، إلا أنني أبحث عن قشة أتعلق بها فركنت للأمل.
أكد الشيخ أني واقعة تحت سيطرة عمل سفلي، أخذ يقرأ بعض آيات من القرآن الكريم ويتفوه ببعض التعاويذ، ثم أعطاني حجاب، وخاتم من الفضة بفص من العقيق منقوش بداخله بعض الطلاسم وقال لي مشددا:
ـ احتفظي بالحجاب دائما ولا تخلعي الخاتم، وجوده يفسد العمل، من وقت ارتدائي للخاتم واحتفاظي بالحجاب تحولت أحلامي لكوابيس.
أخيراً انتصر المنطق واقتنع زوجي بإجراء الفحص المعملي للسائل المنوي .
كانت نتيجة الفحص صادمة لزوجي فعدد الحيوانات المنوية في العينة بالعشرات بدلاً من الملايين والموجود حركته ضعيفة، أعاد زوجي الفحص في أكثر من معمل وكانت النتائج متطابقة،
خضع للعلاج دون فائدة.
ـ الحل في التلقيح الصناعي. هكذا قال الطبيب، ولا يوجد مانع شرعي طالما أن الحيوان المنوي الذي ستلقح به بويضة الزوجة من الزوج.
في المعمل كل شيء بارد، أشعر بالخوف وأقارن بين حميمية اللقاء الطبيعي مع زوجي وبين هذه اللحظات الباردة التي ستمنحني طفلاً بيولوجيا.
قضيت تسعة أشهر نائمة على ظهري أتجنب الحركة إلا للضرورة القصوى مع اتباع نظام علاجي صارم لتثبيت الحمل، ابتسمت وأنا أتذكر أجمل الأوجاع مع حركة الجنين داخلي بطني.
اثبتت أشعة السونار بأنني حامل ببنوته.
يوم فرحتنا وفور إفاقتي من البنج، طلبت رؤية ابنتى، طمأنني زوجي أنها بخير بالحضانة، أحضرها لي في اليوم التالي، يالا هذا الوجه الملائكي الجميل، كنت أحتاج لحضنها الصغير أسميناها مريم تيمناً بالسيدة العذراء.
كانت قرة عين لنا نسهر نمرضها، نراقب سن تنمو في فمها، نسعد بأول كلماتها ببا مما، وكم شبهتها حماتي بجدها لأبيها.
رفرت السعادة علي بيتنا، خصصت كل وقتي لها قللت من علاقاتي الاجتماعية بما يتناسب مع زينة الحياة الدنيا، كنت ادعوا الله أن يطيل في أعمارنا حتي نراها تتأبط زراع عريسها.
اتذكر ذلك اليوم المشئوم استيقظت من نومي وكأن جدار ثقيل جثم فوق صدري، استغفرت ربي، نهضت، يسيطر على أحساس شديدة بالغموض، وحدساً أنّ شيئاً سيئا على وشك الحدوث، تنبهت علي استقبال زوجي لضيف طعننا بقوله:
ـ طفلتكم ابنتي !!!، حدث خلط في معمل التلقيح بين العينات،
ونظر لزوجي وقال:
ـ ابنتك زرعت بالخطأ في رحم زوجتي، وابنتي زرعت بالخطأ في رحم زوجتك، كنا مسافرين للعمل بالخارج، اضطرتنا الظروف للخضوع لفحص الدي أن إيه ( DNA )، أثبتت النتيجة أن من أنجبتها زوجتي ليست من صلبي، عدنا مسرعين للوطن ورفعت قضية على مركز التخصيب، وبفحص سجلاتهم وجدنا أنه أجريت عمليتان فقط للتلقيح في هذا اليوم وأنكم كنتم العملية الثانية.
كان الرجل مهذباً، حاول أن يخفف عنا، قال إنه يشعر بصدمتنا فقد مر بها من قبل، ويعلم أنه لا يوجد وسيلة لإثبات النسب إلا بموافقتنا وإجراء فحص ( DNA )، ثم قال:
ـ جئتكم قبل وصول إعلان الجلسة فقد قمت برفع دعوي أمام المحاكم لإثبات نسب ابنتي بعد أن يثبت الفحص المعملي أنها من صلبي.
كانت صدمتنا شديدة، استجمع زوجي نفسه وسأله:
ـ هل يمكن أن نرى الطفلة التي أنجبتها زوجتك.
أطرق الرجل برأسه، قال:
ـ كان مرضها من ضمن أسباب التعجيل بعودتنا لأرض الوطن، ولدت ضعيفة، من يوم ولادتها وهي تخضع للعلاج، ثم ابتلع الرجل ريقه وعاد ينظر للأرض، ثم غالب دموعه وقال :
ـ توفاها الله بالمستشفى منذ أيام، وكنت أتمني العثور عليكم وهي حية ترزق لكنها مشيئة الله، ثم أخرج شهادة الوفاة وصورة للبنت.
أمسك زوجي الصورة، نظرت في وجهه، أرى تقاطيع وجهه تختلج، ناولني الصورة، أخذت أبكي إلى أن انهرت وسقطت مغشياً علي.
ـ رغم ما عانيناه كان لابد من الذهاب للمعمل المحتفظ بعينة من الابنة المتوافاة التي ثبت مطابقتها لعينة زوجي، وأثبتت نتيجة التحليل أن ابنتي من صلب الرجل الغريب عني.
اليوم هو المحدد لنطق القاضي بحكمه، دخلت حاملة الطفلة، اقتربت مني زوجة الرجل، طلبت مني حمل الطفلة، تمسكت بها، ربت زوجي علي كتفي، ناولها ابنتي، قبلتها ثم ناولتها لزوجها، قبلها، وأعادها إلي .
أعلن الحاجب بدء الجلسة. استعد القاضي للنطق بالحكم.
التعليقات مغلقة.