مسرح الذكريات
بقلم عصام الدين محمد أحمد
الجو تحتله الغيوم.
أمست السماء – كل السماء- وكرًا غربيًا للشمس،احتجبت-اليوم- عن الظهور وكأنها تعاني وعكة أقعدتها طريحة الفراش.
أتجول على المسرح بين الأنام فى هذا الجو الرومانسي البارد ، لا أمتثل لأوامر المخرج، يزعق .
يتجمع الكل فى يمين الخشبة.
تجدني في أقصى اليسار ممسكـًا بورقة عليها بعض الكلمات.
تقصدني فتاة مدبقة باللحم الأبيض الرقيق.
لا أدري إن كان وجودها تلبية لأوامر المخرج!
تبادرني بالسؤال:
أتجهز للخطبة؟
أدس الورقة فى جيبي ، ألف ليواجهني وجهها الذي أعرفه منذ سنين، أنذهل مستفسرًا:
أأنت موجودة؟
تجيبني والدهشة تغمرها:
أأنت تعرفني؟
بصوت منتحر ألفظ:
سميحة.
أتذكر أنني واريتها التراب منذ ثلاثين سنة!
ترتل بنبرة مشرئبة من وادٍ سحيق:
أرسمى مخطوطً فى ورقتك؟
المتجمهرون فى أقصى اليمين يرنمون:
الشعب يريد إسقاط الذكريات.
أبتعد قليلًا لأفحص الجسد،هيئتها المضمخة بالعطر الفواح تبعث فى جوارحي الونس، تتنقل من موضع إلى آخرعلى المسرح ، مسام جسدها تجذبني إليها.
ما موقف المخرج الآن؟
الحديث الآن يرتدي لباسًا قشيبًا.
سيمتطي المهتمون بالكلام رهوان البلاغة، وربما ينسكب الإناء!
أتفرس للمرة الألف وجهها المدور،أبحث عن وجودي فى عينيها الشهباوتين.
أتراها تحفظ لي بقايا ود؟
كيف تحفظ ودًا؟
أنسيت أنك قاتلها؟
ألم تمزق صورتها؟
ألم تنثر رفاتها فوق النهر؟
ما الذي جاء بها الآن؟
أيضا أتريد الهرب للمرة المليون ؟!
تدمع عيناي ، تواسيها السماء برقيق الرذاذ، الجمهور يصطخب:
المحاكمة.
أجثو على ركبتي ، تواجهني بكتاب أسود، تنشر الصحف، تبتعد، أرفع يدي، ألتمس الإنصات، تتحشرج نبراتي:
ما أنا بخائن؟
يهاجمني الصدى:
كاذب.
أبتل ، أنكمش ، أنزوي ، يتضخم الصفير ، يحفني التابوت.
ما أنا بخائن!
يأمر السينارست:
اطرحوه أرضًا.
يستطرد:
اقذفوه فى غيابات الجب.
يجهر المخرج:
توقفوا.
ترميني بالحروف:
السلعة مبتذلة.
لم أقل مثل هذه العبارة.
خبأتك فى قلبي ؛ رميته بالوهن.
أحاط الكثيرون بي ، احضروا كرسيـًّا دوارًا، اجلسوني .
الآن التابوت أمامي، يقبع طيفها خلفي ، أخشى التذمر؛ ربما يأتي بنتائج وخيمة ، تأخذني الشوارد:
من بالتابوت؟
ربما أنت ..هي !
ياعم ها أنا ماثل أمامكم.
كعادتها تتأملني وكأنني قادم من زمن سحيق، ينبسط وجهها، لا يمكنني الاستمرار في مثل هذا الوضع.
أخشى أن يتفحم جسدي بلهب الغدر، لا تتأزم ؛ فأنت لم تمتهن الغدر، ربما يبدو الأمر على غير حقيقته !
يفتعل المخرج حركات عنيفة، يأمل أن يحتدم الموقف، ولكنني لا أخفيك القول:
فالجلسة أعجبتني ، وانحسار الظلمة عن جنبات الذاكرة تريحني؛ وليذهبْ المخرج إلى الجحيم ، دومًا تلسعني سياطه.
يقذف في وجوهنا مشاعل الهرج الوامضة.
يتكرر العرض دون إضافات، لم تنفعه الأحداث المتماثلة، فأيْقِظ سميحة من مخدعها دون أن يكون لها وجود فى النص.
كل ليلة أقعد على المسرح أمتشق بوقـًا، أخطب فى الناس، ولم تظهر الفتاة إلا هذه الليلة، لا أدري بالضبط :
كيف وصل إليها هذا المعتوه؟
ما الدور الذى ستلعبه؟
ما المصير الذي ينتظرني؟
تدنو من المَقْعَد الذي تَدَلّيت فوقه، في خضم انشغالي بها عنها ، تتبدل ستائر الساحة، المشهد تزينه القتامة، أصرخ:
لم أغدر.
تصخب الضحكات الأنثوية الفجة، تكظم صدورهن التأوهات، أدفع عن نفسي الوهن قائلاَ:
لم أبِعْهَا للأوهام.
للجوقة نغمات مزلزِلَة، تستمد عنفوانها من حناجر فتية، يسير المخرج ليسكت الجميع، ولكن الألحان تعنف وتيرتها، ترتج الأقدام، أنكفئ مرة ومرة، ولكنها تجبذني، قطرات الدمع تترقرق على وجنتيها، الآن وجب علي الاعتذار.
ألم تخلفك ساعة الوصال سكينة وجمالًا ؟
ألمحها تبتعد.
أعدو خلفها.
تطير.
تثبط همتي، تنتكس هامتي على القاع.
هرب المؤلف، لحق به المخرج ، تحرر المسرح من دائرة النص، بعض الكومبارس يتعاطفون معي، يحاولون مساعدتي على النهوض.
ساقاي لا تحملاني، وكأن جسدي تشتتت مفاصله، تفككت مساميره، أرغب النهوض، ولكن نفد الوقود، لكمات وكدمات نحتت بدني، عبرني الزمن، ترسبت الندوب، قطعت المقصات أحبالي الصوتية، دثرتني الحياة برغوة العوز:
أريد أن أتخلص من هدومي، أتعرى من الزيف، ربما يعتقدون بجنوني!
ومن أين لي القدرة على الخلع؟!
فالظاهر أنني أصبحت منزوع القوة والقدرة!
أللحم المترجرج عورة ؟
أتعتقد أن النظارة مخصيّون؟
ربما تزينك الشماتة برداء قشيب !
غادر ومغدور وبينهما آمال منطفئة.
ألم ترَها وهي تولي الدبر؟!
لِمَ تكفر بصحيفتها؟
أتَنْغَص رؤيتها لُبَّك الشارد؟
يا مخبول فى صدرك السر.
ألم تلتمس أنني قعيد الآن؟!
ألم تحتوِكَ المكايدة والعنت ؟!
منذ متى والقعود غادرك؟
تدق الطبول ، تُطلق الشمارخ ،أهازيج وصيحات ظفر .
أشب وكأنني فتى في ريعانه، تجرفني الأمواج.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.