معارك الحياة بقلم حسين عيسى عبد الجيد
أحيانا تدفعنا الحياة إلى طريقين مغايرين تماما، وعليك أن تختار أحدهما، إما هذا؟! أو ذاك؟! وإلا ستعاني صراعا نفسيا رهيبا، وربما لاقدر الله تكون نهاية المطاف، وتكون تحت الثرى في غمضة عين.!
فظروف الحياة وضعتك أمام هذا الأمر، وعليك أن تختار، والسمات الشخصية لكل إنسان تلعب دورا رئيسا في اتخاذ أي قرار يتعلق بمصيره أو مصير آخرين،
نعم مصير الآخرين، لأن الإنسانية نبتت على التكافل الاجتماعي والتآذر والتعاون والترابط، فالإنسان يتأثر بما حوله ويؤثر فيه سواء كان تأثيرا إيجابيا أو سلبيا.
ومن لطف ربنا على العباد؛ أنه أخفى كيف تكون نهاية حياتهم، فلو علم كل إنسان نهاية مصيره في هذه الدنيا؛ لتراجع ألف خطوة للوراء قبل أن يقدم على فعل أي شيء، أو ربما كان شجاعا وقبل عن رضا وطيب خاطر ذاك الأمر مهما كانت عواقبه، ومهما كانت الحياة قاسية. ولكن مهما حقق الإنسان كل ما يصبو إليه؛ ستظل الحياة كما هي تارة أفراح وتارة أخرى أتراح.
فالسيد عمر، تزوج من إيمان زميلة له، يكن لها كل مودة واحترام، فهي بحق ومازالت قمة الذوق الرفيع ومن أسرة طيبة، يشهد القاصي والداني لها بالجمال وحسن السيرة والتدين، والكرم الذي لا حدود له، خلال فترة زواجه بها حملت ثلاث مرات ولكن شاء القدر أن يطيح منها الحمل دون سبب يذكر، بعدما قطعا الأرض طولا وعرضا بحثا عن سبب، فعند زيارة أي طبيب تكون المقولة المشهورة إنها مشيئة الله، لم يخف كلاهما حزنه مما حدث، فهو كان يمني النفس أن من اختارها عقله وقلبه؛ تكون أما لأبنائه، فهي نعم الشخصية الأم! القادرة على تربية الأبناء تربية صالحة في ظل هذه الأجواء الفاسدة التي تجوب بلادنا شرقا وغربا، وسلوكيات الأبناء المغايرة تماما عن سلوكيات أبائهم وأجدادهم،
ولكنها مشيئة الله حقا، لم يكن أمامهما سوى الخضوع إلى حكم السماء والرضا بالقدر المكتوب، عاشا معا حياة ممتعة بعد سنوات خمس خلت؛ عانا فيها من آلام نفسية شديدة القسوة؛ ألمت بهما أثناء سقوط الحمل المتكرر، لكنها كانت تداعبه ببعض الكلمات التي توحي بالزواج من أخرى مع الإبقاء عليها، وينعمون جميعا بأطفال يملأون حياتهم بهجة وسرورا، وسرعان ما ركض صوب أخرى أرملة في الثلاثين من عمرها تبدو ولودا وتكتظ بألوان الأنوثة، امرأة إن قبلتها تلد بعد تسعة أشهر، أخبرها أنه ينتوي الزواج منها في القريب العاجل، وسرعان ما أخبر إيمان بأنه همس لتلك الأرملة بأنه يود الارتباط بها، اكفهر وجهها لما سمعته، وعاتبته بشدة، ثم نأت بنفسها عنه لفترة ليست بالقصيرة، وبعد أن هدأت؛ طلبت منه النقاش حول هذا الأمر الجلل وهي تبكي حظها العاثر، فهي لا ينقصها شيء سوى أن يثبت الله الحمل في رحمها لكنها مشيئة الله، ثم أردفت : أعلم أنه من حقك أن يكون لك أبناء، لكن مسألة الزواج من أخرى أمر صعب للغاية، ومع ذلك أنا مؤمنة بقضاء الله وقدره، ولتكن أمهات المؤمنين قدوة لنا، لم يصدق مايسمعه وترك الجوال من يده، وانتبه لحديثها والذي يبدو جديدا وجميلا، ثم وجهت له سؤالا؟
- هل ستعدل بيننا؟
وكأن جبل هوى فوق رأسه! فمن يستطيع أن يعدل بين امرأتين حتى لو هبطتا من رحم واحد؟ نظر إليها مليا، من اخترتها شخصية رائعة، وأنا أحترمها كثيرا، وبتعاونكما معي سأكون عادلا، لكن غير ذلك سيكون الأمر صعبا، لكن! سأبذل كل ما بوسعي كي تمر سفينة العمر بكل هدوء ودونما ضجيج، - وأنا سأساعدك رغم مرارة الألم.
لم يصدق نفسه من هول المفاجأة، ومن أنها وافقت ورضيت بعد غضبها الشديد،
قاطعت خياله الذي ذهب بعيدا، حيث حياة أخرى جديدة ستكون في انتظاره بين زوجتين تلوح في الأفق، والظفر بشجرتين مثمرتين بكل ألوان الجمال والخير والنقاء، قلما إن أنجبت مثلهما بطون النساء. - إذا عليك أن تخبر سعاد أنني موافقة على الزواج منها، لكن بشرط!
- وكيف عرفت أنها سعاد؟
- أنا أعلمك تماما يا عمر ومذاكرة شخصيتك جيدا، فسعاد نبيلة للغاية وأنا أحبها كثيرا، فنعم هي! التي ستقاسمني فيك، صديقتي من أيام الطفولة ولم أر منها ما يسوء، وقلبها كله حب وخير وجمال، حقا أحسنت الاختيار!
- ولقد أحسنت الاختيار في المرة الأولى، فنعم أنت الإنسانة الودود!
( قالها وهي تعلم أنه صادق ولا يكذب )
لكن! - ماشرطك إيمان؟
- أن نكون جميعا في منزل واحد
- وكيف ذلك؟
- أنت رجل، وعليك أن تعمل على الجمع بيننا في مكان واحد، فأنا لأستطيع الابتعاد عنك وراحت في نوبة بكاء، ربت على كتفها وقبل رأسها وغادر مسرعا إلى سعاد؛ ليخبرها بشرط إيمان على الموافقة،
ثم لم يصدق أن سعاد وافقت أيضا لأنها تحب إيمان كثيرا، لكن ظروف زواجهما أبعدهما عن بعض.
راح عمر بكل فرح يعيد طلاء المنزل ويرمم ما أتلفه الزمن، ثم جهز حجرتين للنوم، نفس اللون ونفس الأريكة، تكاد الحجرتان تتشابهان في كل شيء، ولم يشتر شيئا لعروسه سعاد إلا واشترى لإيمان مثله، وقبيل أن تلج سعاد من باب دنياها الجديدة؛ أرادت إيمان أن تترك المنزل لفترة حتى ينعمان معا…، الأمر الذي رفضه تماما عمر وسعاد، وأثناها عن هذا الأمر، ثم بدأت الحياة الثلاثية الجميلة؛ بعدما قسم أيام الأسبوع بينهما، هذه ليلة وتلك أخرى، على أن يكون وسط الأسبوع ليلة ينام فيها منفردا، وخوفا من تلصص كليهما على بعضهما؛ فكان عندما تكون ليلة سعاد؛ يضع قرص منوم في فنجان شاي إيمان، والتي قبيل أن ترتشف منه رشفتين تتثاءب، وتركض لحجرتها لا تستفيق إلا مع أذان الفجر، وهكذا عندما تحين ليلة إيمان؛ يركض للمطبخ ويضع قرصا في فنجان سعاد، لكنه غفل أن لبعض النساء مكرا ودهاء وكيدا عظيما، ففي الليلة التي ينام فيها منفردا، تضع إيمان قرصا في كوب الشاي الذي تقدمه له، وما يلبث ويقوم بطردهما مازحا؛ لتذهب كل واحدة إلى غرفتها؛ تفاجئه سعاد بعصير الفاكهة، وكانت أيضا قد وضعت
قرص منوم؛ خوفا من أن يقلق ليلا ويذهب إلى إيمان، كما فعلت ذلك إيمان حتى لا يركض صوب حجرة سعاد،
وهكذا توالت الأيام والليالي بين الزوج وزوجتيه، في هناء وسعادة، وشد وجذب وضحكات تعلو الوجوه، وبعض المشاكسات الصباحية اللطيفة؛ عندما يلاطف إحداهما وهو للتو تارك حضنها، فتغتاظ الأخرى، أو عندما يقبل واحدة وينسى الثانية وهو عائد من العمل، لكن إن تعبت إحداهما تعينها الأخرى بكل حب ومودة راضية بحياتها الجديدة دون تذمر أو نفور، ومالبثت سعاد حتى بدأت بطنها في الانتفاخ، وظهر المعدن الأصيل لإيمان، فبدأت تقوم راضية بأعمال المنزل من طهي وتنظيف وغسل ملابس وتسوق وأشياء أخرى، وكان أغلب رجال الحارة يغبطون عمر على ماهو فيه من نعم عظيمة، ولا سيما نعمة الجمع بين زوجتين يتقاسمان رجلا واحدا، حتى وإن كان بعض نسوة الحارة يردن الوقوع بينهما، فحبهما لبعض كان أكبر من أي مكيدة تحاك لهما، وظل هكذا يخرجان معا ويعودان معا، ويوما بعد يوم تزداد انتفاخا بطن سعاد، وتزداد فرحا إيمان بالضيف الجديد الذي سيزيد فرحتهم، وضربتا مثلا من أن الحياة أقل كثيرا من العراك حول رجل، تريد كل امرأة الظفر به وحدها، طالما يستطيع ماديا وصحيا.
انطلقت سيارة الإسعاف حاملة الزوجتين إلى أقرب مستشفى، حيث صرخت سعاد ألما في إحدى جانبيها، ثم صرخت إيمان من ألم أيضا يعتريها في أحد جانبيها، عمر يحدث نفسه وهو بجانب الزوجتين : ربما سعاد تعاني من آلام المخاض فهي على وشك أن تضع زهرة عمرهم، لكن لماذا تصرخ إيمان؟! لم يعرف الإجابة إلا عندما كان بمكتب الطبيب بعد الكشف عليهما. - دكتور، من فضلك طمني؟!
- عمر ، السيدة سعاد تعاني ألم المخاض والآن نجهز لها إجراء عملية الولادة، وأنت تعلم أن كليهما تعيش بكلية واحدة، فالسيدة إيمان تبرعت لجارة لها، والسيدة سعاد تبرعت لزوجها قبل وفاته،
- أعلم ذلك فهما متشابهتان في كل شيء حتى في الكرم اللامحدود، لكن الخبر سقط على رأس عمر كالصاعقة، وسرعان ما استفاق سائلا الطبيب؟
- ما الحل؟
وهل الجنين بخير؟ - الجنين بخير، لكن عليك أن تبحث عن متبرعين وإلا حياة الزوجتين في خطر.
عاد عمر إلى منزله وحيدا يضرب أخماسا في أسداس، فماذا يفعل أمام هذه الكارثة التي حلت به؟ لجأ لله باكيا أن يهون عليه هذا المصيب الجلل، ثم راح في سبات عميق فوق سجادة الصلاة، لم يستفق إلا على دقات الجوال من قبل الدكتور المعالج. - يا عمر، الحالتان في خطر والجنين أيضا، أنا بانتظارك.! ركض عمر صوب المشفى كالمجنون، وماذا يفعل بعدما عجز عن إيجاد متبرع؟! ثم طرأت برأسه أن يتبرع هو بإحدى كليتيه!
لكن لمن يتبرع؟! هل يتبرع لإيمان زوجته الأولى التي عاش معها أجمل سنوات العمر؟ أم يتبرع لسعاد والذي لامس من خلال الفترة البسيطة إنها إنسانة بما تحمل الكلمة من معان؟ ثم إنها ستكون أما للضيف الجديد! ودخل في صراع مرير، وراح يؤنب نفسه أن تزوج أملا في الإنجاب، ولو كان يعلم هذه النهاية الصادمة لما قبل الزواج من البداية، أخرج أجرة التاكسي وفتح الباب وركض فوق الدرج طالبا الدكتور بأقصى سرعة. - دكتور، لم أجد متبرعا.
- يا عمر، الأمر بالفعل صعب للغاية عليك الآن أن تأتي معي لترى طفلتك الجميلة، والتي خرجت إلى الدنيا بصعوبة، وكمان ترى زوجتيك.
- ما شاء الله تبارك الله قمر يا دكتور، لكنها سبحان الله تشبه مامتها إيمان!
- لاحظت يا عمر، هذا صنع الله! لكن أيضا بها ملامح من أمها سعاد
- نعم، نعم لا حظت ذلك.
- ماذا تسميها؟
- بإذن الله صابرين.
- اسم رائع، لكن الزوجتين في خطر يا عمر.
ثم مرا معا على إيمان وسعاد اللتان ترقدان معا في غرفة واحدة، قبل يد إيمان وهمس لها باكيا : ستكونين بخير لا تنزعجي حبيبتي، ثم قبل يد سعاد وهمس أيضا لها باكيا : ستكونين بخير لا تنزعجي حبيبتي. - دكتور، وجدت المتبرع
- من؟ وأين هو؟
- أنا!
- أنت؟ حسنا!
- ستتبرع للزوجة الأولى أم الثانية ؟!
صمت عمر طويلا، ثم نظر إلى الطبيب مبتسما وقال : - كيف ترى التحاليل التي أمامك؟
- ممتاز يا عمر، رسم القلب
ووظائف الكلى والكبد والغدد كلها رائعة، وأنت لا تعاني من أي أمراض، - نعم هذا من فضل ربي علي،
- لم تقل لمن ستتبرع للزوجة الأولى أم الثانية؟
- أتوعدني أن يكون هذا سرا بيني وبينك يا دكتور؟
- أوعدك!
- حسنا!
بعد أن أدخل غرفة العمليات وتقوم بتخديري؛ اقرأ هذه الورقة ونفذ كل ما جاء بها دون أن تخبر أحدا. - حسنا يا عمر سأنفذ كل ما جاء بها.!
- دكتور، من فضلك أوعدني بأنك ستنفذ كل ماجاء بالورقة مهما كان بها
- أوعدك يا عمر، سأنفذ كل ما جاء به حرفيا.
تمدد عمر فوق أريكة العمليات؛ بعدما توضأ وصلى ركعتين؛ شكرا لله لنعمه الكثيرة التي لا تحصى، وقرأ ما تيسر من القرآن، ثم طلب من الدكتور أن يرى صابرين، جاءت تصرخ بين أحضان الممرضة والتي ناولتها له وهو واقف أمام غرفة العمليات، نظر إليها مليا، ثم قبلها وأعادها إلى الممرضة مرة أخرى، وقبيل أن يغيب عن الوعي؛ مد الورقة إلى الطبيب، والذي فتحها فقرأ :
لقد عشت ما قد كتبه الله لي سنوات حافلة بعمل الخير والحياة الممتعة بين زوجتين جميلتين يملأ قلبهما الحب والخير والجمال؛ وحبا فيهما وفي صابرين التي ستحمل اسمي بعدما كان على وشك الفناء؛ سأتبرع بكليتي للزوجتين.!
نفذ الطبيب كل ما جاء بالورقة حرفيا، وخرجت من المستشفى بسلام صابرين وإيمان وسعاد، وقبلهن بقليل خرج عمر.!
حسين عبدالجيد
التعليقات مغلقة.