معلم فى زمن التطوير …بقلم مرفت السيد أحمد عبد الحميد
قصة قصيرة ….
معلم فى زمن التطوير
بوابة المدرسة لم تغلق منذ الطابور الصباحي ..
فاليوم هو يوم اجتماع أولياء الأمور الاسبوعي ، والذى تزامن مع حملة تفتيش مفاجأة من الوزارة لمتابعة سير العملية التعليمية ….
ولكن خبرها قد سبقها ببضع ساعات _ أحد المفتشين لم يريد الأذى لأحد فنقل الخبر_ الجميع على أهبة الاستعداد ، مدير المدرسة لم تهدأ له قدم منذ الصباح يطمئن على نظافة الفصول و دورات المياه بنفسه .. كذلك أوعز إلى بعض المدرسين باستكمال دفاتر التحضير ، و لم ينس أيضا تعديل بعض الملفات الإدارية والمالية .. والتأكد من التزام الهدوء في الفصول _ هذا كل ما تحتاجه اللجنة ، هكذا تكون الرقابة ..
بدأ الاجتماع في الساعة الحادية عشرة صباحاً كما المعتاد ..استهل أحدهم الاجتماع بوجوب التبرع لعمل بعض أعمال الصيانة الدورية .
_تذمر أحدهم تلك مسؤولية الوزارة ، نظر بعضهم إلى أحد المفتشين وساد الصمت ..
قطع هذا الجو الصامت صراخ أحد التلاميذ مصحوبا بانطلاق مدفع شتائم ، لم يوقفه غير ضربات عصا شديدة الحدة ..
_ أحد المدرسين ملوحا : إنه الأستاذ أحمد من فصل ٣/٤ غالبا ما يفتعل المشكلات ..
اتجه الجميع إلى الفصل يتقدمهم مدير المدرسة وأحد أعضاء اللجنة الوزارية
_ ماذا تفعل يا أستاذ أحمد ..؟؟
_ ألست على علم بقررات الوزارة؟!!
التلميذ يتخذ دور الضحية يعلو صوت بكائه : لم أفعل شئ ..
أحد أولياء الأمور محاولا تهدئة الطالب : أغابت الرحمة عن قلبك ؟؟
(اعتبره ابنك ) ألست أب !! أم تفعل هذا لإجباره على الدرس الخصوصى..
المعلم فى سخرية : فقط أحاول إصلاح نقص تربيته و تقويم سلوكه الأعوج ..
أحد مفتشى اللجنة : لابد من تحويله للتحقيق ؛ وفى التحقيق قل ما يحلو لك هذا هو القانون.
سعد أولياء الأمور بهذا الحزم . والطالب يرقص فرحا بنشوة الانتصار _ولما لا وقد عرف الطريقة التي يكسر بها شوكة هذا المعلم إذا حاول العودة ..
فى التحقيق الأولي بالمدرسة ظل الأستاذ أحمد صامتا كنوع من الإنكار والسخرية مما يحدث . وفى نهاية التحقيق تم إحالته إلى المُسَألة التأديبية ، و استبعاده عن العمل ،إضافة إلى تحقيق أخر ستجريه الوزراة بعد شهر من تاريخه …
تحجيم دوره وإحساسه بالمهانة أمام تلاميذه صار كمطرقة حديدية ضخمة تدق فى عقل الأستاذ أحمد جعلته يتحسر على زمن فائت ..
رجع بيته ليواجه همَّا أخر .. مسؤولية البيت والأولاد والأم العجوز…يقضى يومه بالكفاف مرتبه لا يكفى …ولا احتمال للزيادة فى المستقبل ..وهمومه تزداد يوماً بعد يوم ..لا يعرف مهنة غير التدريس …
مضطرا بدأ فى إعطاء الدروس الخصوصية بعد عودته من المدرسة فى الطابق الثاني من منزله _ الذي دفع لبنائه إدخار سنين العمر إضافة إلى مصوغات زوجته الذهبية …
فى أثناء إحدى الحصص تمت مداهمة منزله بواسطة مجموعة كبيرة من عساكر الشرطة والمخبرين يتقدمهم ضابط ، وفى سرعة البرق أحكموا الدائرة حوله خوفا من أن تنبت له جناحان ويستطيع الهرب فألبسوه أساور الحديد ..لم يُسمع منه إلا بعض حشرجة وإشارة من يده المرتعشة لتلاميذه يأمرهم بالإنصراف وعينيه الزائغتين تخشى النظر إلى أحدهم ..
الخبر انتشر كالهشيم “”ضبط معلم يدير شقة للدروس الخصوصية “” ضُبِط متلبساً بأدواته _قلم بورد وسبورة بيضاء وسلاح تلميذ وأطفال فى عمر الزهور تلك أدوات صنع قنابل التربية والكرامة والعلم …
المحقق : أنت متهم بضرب تلميذ والتسبب فى أذى نفسى له تحت سمع وبصر الجميع…. ما قولك ؟؟!
المعلم : ألست شريك فى التربية الطالب أخطأ ولا بد من تقويمه..
المحقق : متهم أيضاً بالاعتداء على الحقوق الفكرية للوزارة ، وقضية تهرب ضريبة ، واستنزاف مادى لأولياء الأمور عن طريق الدروس الخصوصية..
لم ينكر الأستاذ أحمد تلك الاتهامات .مازال يعتقد أنه على صواب ..
المحقق لم يمهله فالتهمة واضحة والعقوبة جاهزة …حكم عليه بالسجن مع دفع غرامة مالية كبيرة ..
ولأن المصائب لا تأتي فرادى….. تم إخطاره بتعديه على أملاك الدولة … ورجال الحى الشرفاء فى طريقهم لتنفيذ قرار الإزالة لمنزله ..
حُبِس فترة إلى أن استطاعت زوجته استدانة المبلغ وإخراجه ..
فى غسق الليل تسلل خفيه إلى المدرسة ، ودخل أحد الفصول وأحضر السبورة وأدواته إلى فناء المدرسة .
وفى الصباح وجدوه معلقاً فى سارى المدرسة منتحرا ، بعد أن كتب على السبورة التى وضعها بجانبه ….
(( كنت أريد أن أودعكم الوداع الأخير….. وأبكي معكم كرامتي المهانة ..ولكن لا وقت لدي لزرع ضمائر جديدة . ..سأترككم لخرابكم غير آسف عليكم ؛ أحاول النجاة قبل أن يغتال رصاص الخونة أخر الأنبياء…
… ……المدرس أحمد ))
بقلم / مرفت السيد أحمد عبد الحميد
مصر
التعليقات مغلقة.