مقالات بسن القلم: الإذاعة صوت نراه بآذاننا ..بسن قلم حسين الجندي
عندما دخلت المجال الإذاعي وجدته مرهقا للغاية ويحتاج لدقة شديدة، ففضلا عن تقنيات الصوت وفنيات الأداء من نقاء ومرونة وتطويع للأحبال الصوتية لكي تعبر عن المضمون بحرفية بالغة، إلى مكان الأداء وهدوئه، ومعايشة اللفظ بكل كيانك فلا يظهر حزنك وأنت تعبر عن موقف فرح والعكس صحيح..
وهكذا في كل المشاعر والأحاسيس من حماس وفتور وغضب ورضا وراحة وغيرة وحب وكراهية وحقد وبراءة واشتياق وهجر الخ….
و المعضلة الكبرى في نطق الكلمات مضبوطة نحويا بلا تحريف ولا لحن..
حتى أوائل وأواسط الكلمات تحتاج إلى ضبط أيضا (فيَخْرُج) تختلف عن (يُخْرِج) وهكذا..
فالكاتب يستطيع التسكين أو عدم الضبط ويترك الحرية للقارئ، أما المذيع فلا وألف لا..
كذا نطق الحروف من مخارجها المعروفة فلا ينطق حروف التفخيم مثلا مرققة أو العكس..
هذا بالإضافة لأمور أخرى:
فعند الحوار يجب أن يحب ضيفه أكثر من نفسه..
وألا يكون صوته مزعجا منفرا..
وحُسْن اختيار الموضوعات ومراعاة تجددها..
البعض يظن أن الجمل المذاعة هي مجرد رص كلام والسلام!
لكن في الحقيقة المذيع الناجح هو ممثل بارع فكل جملة بل كل كلمة ولا أبالغ إذا قلت كل حرف له طريقة تمثيله وتجسيده وعلامة نجاحه في ذلك هي وصول ما يريده إلى جميع حواس المستمع وليس إلى أذنه وفقط،فتراه يقشعر وتظهر عليه علامات التأثر بما وصله من مادة إذاعية..
فعندما يسمع كلمات بها روحانيات ربانية تتجلى نفسه وترتقي إلى عنان السماء فتهيم في شوق وسمو كجُلِّ برامج إذاعة القرآن الكريم..
وعندما يسمع كلمات الوطنية تستنفر فيه مشاعر الانتماء والعزة كما كان يجلس أهلونا ليتابعوا أحداث حرب أكتوبر المجيدة..
وعندما يسمع الأشعار والآداب وقطوف الأدب يشعر بأنه تناول وجبة غذائية عقلية فكرية وجدانية دسمة كبرامج إذاعة البرنامج الثقافي مثل برنامج في المحافل الأدبية، ومع الأدباء ونافذة للحوار وغيرها..
حتى ملاعب الرياضة دوى فيها صوت المذيع الذي نقل لك صورة حية من الملاعب المختلفة وكان شعاره:
(اسمع كأنك ترى)..
فلك أن تتخيل قبل التليفزيون لا سبيل لمتابعة المباريات إلا الإذاعة والتي تحتاج لحاسة البصر كحاسة أساسية، فندرك وقتها مقدار الجهد الذي يبذله مذيع الراديو لينقل للمستمع تفاصيل المباريات بكل دقة وتوضيح فيقسم الملعب إلى مربعات دفاعية وهجومية ويظل يعلق برقم المربع ليجعل المستمع يعيش الحدث وكأنه يراه ولا يفوتنا هنا أن نذكر الإذاعي القدير الأستاذ محمود بدر الدين والأستاذ فهمي عمر والأستاذ حمدي الكنيسي والمعلق الكبير محمد لطيف..
و الجدير بالذكر أن لكل مذيع بصمة مميزة فعند سماع بيت شعر نقول :
هذا (فاروق شوشة)..
وعندما نسمع هنا القاهرة نقول:
هذا (أحمد سالم) وهو أول من نطق بها..
وعندما نسمع البهجة والتفاؤل في الصباح
(غمض عينيك و ارقص بخفة و دلع
الدنيا هي الشابة و أنت الــــــــجدع
تشوف رشاقة خطوتك تعبــــــــدك
لكن أنت لو بصيت لرجليك ….تـقع)
تعرف أنك تسمع صوت
(إيناس جوهر)..
ويتنامى إلى مسامعك صوت الكروان يعقبه صوت ملائكي فتعرف أنك أمام عملاقين:
(جيهان الريدي والسيد حسن)
قد يقول قائل :
المذيع يختبئ وراء الميكروفون..
ويقصد بذلك التقليل من شأن فكرة الإذاعة في مقابل التليفزيون، بزعم أن الأخير صوت وصورة وكل شيء على العيان..
أقول:
المذيع في التليفزيون لديه عوامل مساعدة كثيرة من إضاءة وديكور وتقارير مصورة الخ…
فالصورة هي البطل الرئيس..
أما مذيع الإذاعة فهو البطل الأساسي لإنجاح برنامجه أو إفشاله..
ولايفوتني هنا في هذا المقام أن أختم بهذا الحدث الذي كان له كبير الأثر في نفسي..
في أول زيارة لي لمبني الإذاعة والتليفزيون بماسبيرو وتحديدا لاستديوهات الإذاعة:
ذهبت هناك في الأساس لتسجيل حلقة من برنامج (هذه قصتي)
مع الإذاعية الكبيرة الأستاذة/ جيهان الريدي..
وكان التسجيل في أحد استوديوهات البرنامج العام وكان يتبقَّى على موعد التسجيل ساعتان تقريبا، فقلت في نفسي أنه لا مانع من أخذ جولة تفقدية داخل المبنى..
بالطبع لم أكن أعرف أي شيء عن دهاليز المبنى ولا حجراته ولا ممراته..
فَهِمْتُ على وجهي أنتقل من ممر لممر ومن استديو لآخر، حتى رنا إلى مسامعي صوت يلقي الشعر برنة محببة، صوت يجمع بين جودة الأداء وموسيقية الإلقاء..
تساءلت داخلي:
لمن هذا الصوت يا تُرَى؟
أنا أعرفه، لعله.. نعم نعم هو..
هو الدكتور الفنان القدير :
(عادل هاشم)
وهو لمن لا يعرفه من الجيل الحالي فنان جسَّد العديد من الأعمال الدرامية الرائعة مثل:
محمد رسول الله، رأفت الهجان، القضاء في اﻹسلام، بوابة الحلواني، قصة مدينة، اﻷبطال،رجل لهذا الزمان، هدى ومعالي الوزير، 131 أشغال، عفريت النهار، حرب أطاليا..
وجدت الدكتور (عادل هاشم) يسجل قصيدة نهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقي، وبتواضع شديد منه تقبَّل أن تتواجد معه أثناء التسجيل مصححة للغة..
وبقدر استمتاعي بطريقة الأداء الفخيمة إلا أنني عندما وصلتْ إلى مسامعي كلمة بها تحريف نحوي، احترت أأتدخَّل وأصوبها أو أمرِّر الأمر؟
جمعت في الأخير شجاعتي وحسمت أمري، فاستأذنت بالدخول..
في البداية أصيب الجميع بالذهول؛ فمن هذا المجهول الذي يدخل عليهم..
في بادئ الأمر قوبل تصحيحي بجدال كبير، فمن غير المعقول أن يكون الضبط به تحريفا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف بما سبق تسجيله، أليس من الممكن أن يكون به أخطاء؟
فطبعا وبفرضية الخطأ الذي اكتشفته قدرا فإن الخطأ وارد..
ولكن في نهاية الأمر تم الاعتراف بالخطأ وبدأ التصحيح، وهنا طلب مني مهندس الصوت الدخول للدكتور عادل فهو يريد رؤية الشخص الذي صمم على رأيه في التصويب(يبدو أنني قد دخلت دماغه)..
كان لقاء حارا،وكأنه بين صديقين قديمين – سبحان الله- وبعد التعارف والذي منه، طلب مني الجلوس لمتابعة تسجيل باقي الحلقة، فاعتذرت منه حتى لا أحرج الأستاذة المصححة،لكني فوجئت بها ترحب بكل ود..
جلست قرابة الساعة، عايشت فيها عظمة الإذاعة ودورها الرائد في تثقيف الناس ونشر الوعي بينهم..
ثم حان وقت تسجيل حلقتي مع الأستاذة الفاضلة جيهان الريدي، فاستأذنت منه على أمل في لقاء قريب، لكن يشاء الله عزوجل أن يتوفاه الله بعد ذلك بشهور..
وبعد..
الصوت الإنساني أوركيسترا كاملة يمتلكها كل إنسان ولكن مذيع الإذاعة الناجح هو فقط من يمتلك عصا المايسترو الساحرة التي يستطيع بها قيادة تلك الأوركيسترا بدون نشاز ليعزف للمستمع أروع المقطوعات التي تظل عالقة في وجدانه مهما اختلفت وتنوعت وتعددت وسائل الميديا، فالحلم دائما أجمل من الواقع،وهذا الحلم هو ما ينساب عبر الأثير ليحقق في الوجدان أبلغ التأثير..
العمل الإذاعي له عبقه، وهو هبة من الله قبل أن يكون دراسة أو مهنة..
فاسترخ وغمض عينيك، وأدر مؤشر الراديو على محطتك المفضلة، واختر برنامجك المحبب، واترك لخيالك العنان..
والسلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التعليقات مغلقة.