مقالات بسن القلم … حسين الجندي : الإبداع بين ممرين
يمرُّ الإبداع بين ممرين ضيقين يخرج منهما لاهثا يكاد يلتقط أنفاسه..
الممر الأول :
به فريق يرى أن الإبداع الحقيقي لا سقف له ولا حدود؛ فللمبدع أن ينطلق كما يحلو له ليعبر عما بداخله من طاقة إبداعية كامنة، ولتخرج في أي صورة كانت، ولا يضع في اعتبارياته وقت الإبداع أي ضوابط أخلاقية حاكمة سواء نابعة من دين أو عرف أو تقاليد أو آداب عامة أو وووو..
ويرون أن تلك الحرية من وجهة نظرهم هي ماهية الإبداع الحقيقية وبغيرها يتحول إلى مسخ مشوه باهت لا طعم له ولا لون ولا رائحة، وأن المبدع بدون تلك الحرية الإبداعية ككائن مسلسل بالأغلال والأصفاد وما سيخرج منه – هذا إن خرج شيء- سيكون مصيره إلى ثلاجة موتى يُحْفَظ فيها للأبد، ولن يجرؤ أحد ذو ذائقة على مجرد التفكير في تعاطيه أو الاقتراب منه..
فالإبداع عندهم بهذا المفهوم حياة، يجري في دمائهم، يقتاتونه ليظلوا على ظهر الدنيا، متعتهم الحقيقية التي لا تضاهيها متعة..
ليس عندهم تجارة ولا حرفة ولا مصدر للتكسب، بل يصير عند جلهم مصرفا لغالب دخلهم وقد ترك البعض منهم فقراء يسألون الناس..
الإبداع عندهم لحظة تجلي، وميض برق خاطف، انفجار وجداني لا يمكن السيطرة عليه، لذا يرون أنه لامجال للعقل أو أي سلطة حاكمة وقتذ..
الممر الثاني:
به فريق آخر على النقيض من الفريق الأول :
فبرغم أنهم يرون الإبداع إكسير الحياة ومصدر شغفها ومتعتها.
ويرونه الهواء الذي نتنفسه حتى في أضيق الأماكن أو أحلكها ظلمة..
ويرونه المُمَيِّز الرئيس بين البشر وباقي الكائنات..
إلا أنهم يضعونه في كفة ويضعون الدين والأخلاق والقيم المجتمعية والأعراف في كفة أخرى..
بمعنى أنه طالما لم يحدث تعارض بين الكفتين فلا ضير،وأهلا بالإبداع والمبدعين،أما لو حافت كفة الإبداع على الكفة الأخرى فلا أهلا ولا سهلا بل يعلقون له المشانق ويبرزون لأصحابه أنيابا زرقا،ويفردون لهم صفحات ومواقع وجرائد وكتبا للنيل منهم ومن إبداعهم النكد الآسن..
العجيب في أصحاب هذين الرأين أنهم ليسوا على استعداد أبدا للتنازل عن قناعاتهم..
بل كلما عُقِدَت المناظرات بينهما، خرجوا باقتناع أشد برأيهم وخرج الجمهور بتشتت أكبر..
وهذا ليس وليد اليوم بل هو منذ نشأة الكون، إلا أن القضية نفسها لا تظهر إلا في أوقات وأوقات..
أي تظهر وتختفي لمعطيات كثيرة وأيدلوچيات متباينة..
تراءى لذهني الآن صور من أعمال يظنها البعض إبداعا ينطبق عليه الجدال السابق، ولكني أراها ابتذالا محضا وسقوطا صِرْفا..
فلا إبداع في لوحة فاحشة داعرة ولا فيلم أو مسلسل ينقل المواخير والخمارات والغرز بحذافيرها دون أدنى درجات اللوم أو ريحة الاحترام..
ولا إبداع في روايات أوقصص تنبر على وتر الغرائز وتُسَطِّر كل المفاسد، وتُضيِّع كل القيم، وتُظهِر البطل وهو يتناول كل الموبقات بدعوى الحبكة والتوليفة والبهار الجاذب لضمان التسويق وإكثار عدد الطبعات..
وبعد..
أيها المتلقي للإبداع:
ما دامت القضية شائكة والخوض فيها كمن يخوض في ماء لازب لا يكاد يستطيع تحريك قدميه فيه؛ إذن:
عليك بتحكيم ذائقتك وفطرتك النقية..
ويا أيها المبدع:
أريدك- وبدون إملاءات مني عليك وعلى إبداعك-
أن تتخيل نفسك أمام ربك يوم الحق ويسألك عن إبداعك
(ما له وما عليه)..
إن وجدت حصاد هذا الإبداع وقتها لا قيمة له البتة أمام الحق بل كان سببا في هلاكك وإضلال من اتبعك فأمامك فرصة لتصحيح المسار، وإلا فلا تلومَنَّ إلا نفسك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسن قلم:
حسين الجندي
التعليقات مغلقة.