ملكة الليل..
بقلم زينب عبد الكريم التميمي.
كفراشة حقل بابتسامة جميلة تغمر وجهها .تفيض حبا للحياة , زاهية كزهو الشفق الملون ,تجاري الريح , لاتعرف سبيلا للخوف. تستقبل صباحها بشدو فيروز وتختم ليلها بأغنية للسيدة حتى يجتاحها الوسن فيردى رأسها على نديم من كتبها التي اعتادت قراءتها . حياة مترفة بكل سبل الدلال والراحة. كانت زينة قد اعتادت هذا النمط من الحياة ,حتى جاء صباح يوم تموزي رمضاني .يمور بحره ولهيب الصيف الرمض ليحرق معه كل اخضر ذي حياة.
انتابها شعور غريب وهي تلتحق بوالديها في غرفة الجلوس .شعور لم تعهده من قبل .رغم الهزار والضحك المتبادل بين افراد العائلة. كان هناك ضبابا يخيم على تفكيرها , رؤيا مبهمة تنبؤها بأن أمرا ما سيحدث .
“سنذهب اليوم الى السوق لنجهز للعيد . فلم يتبق سوى بضعة
ايام ” .قال الاب محادثا زينة.
زينة: أنا لااريد الذهاب, ليتكم لاتذهبوا أيضا . لكن الوالدين أصرا وخرجا بعد ساعتين من حديثهما لأنهما لم يعرفا لمنعهما سببا وخصوصا أن السوق قريب من البيت.
مرت الساعة تلو الساعة ,كانت تتابع مسلسلا على إحدى قنوات التلفاز ,دوي انفجار يهز المدينة ويهز قلبها , كاد أن يقتلعه من مكانه. رائحة البارود ورائحة أشياء تحترق ملأت الجو .لم تبال لأنها اعتادت مثل هذه الامور في زمن الحرب ومابعده. .حان وقت الافطار بغيابهما . قلق خيم عليها,هواتفهما مغلقة .جفلت عيناها .أيقنت صدق إحساسها ,شيء ما قد حدث . شريط الأخبار لفت نظرها ,عاجل “إنفجار كبير جنوب البلاد يروح ضحيته عشرات المدنيين الأبرياء” تخرج للشارع .لازالت روائح الشواء تملأ شوارع المدينة .
تمشي ,تتعثر ,تنهض ,تركض متخبطة.
تزداد الرائحة ,تقترب من المكان .شبح الموت مخيم .أقدام عارية ,أشلاء أجساد متناثرة , يد هنا ,إصبع هناك , جسد محروق تحاول أن تميزه .إمرأة مغطاة . دخان متصاعد تتهالك قواها ,ترتجف , تسقط,تجثو على ركبتيها .
كل شيء قد تجمد وتوقف . كل شيء يوميء بالوداع . تهاتف العابرين بصوت كان قد مات على اطراف لسانها :اين هم؟
ولا مجيب.
أيام مرت كان العيد قد أدلى دلوه وانتهى .
فتحت عينيها في غرفتها بعد أن إستفاقت من غيبوبة دامت ايام .كان الليل قد بدأ يسدل ستائره.البيت والرائحة وذلك المكان وظل الموت المخيم . تذكرت , ارتعدت صارخة بصوت إرتد صداه لمسمعها خاويا من صوتهما : ياالله , يا الله ,لمَ ياالله؟.
لاجواب. فلم يعودا في البيت .لم يعد سوى ذكريات واصوات كانت قد ادمنتها ترن في مسامعها بين الحين والاخر .
صوت امها :صباح الخير .آخ ,كم مرة نهيتك عن فعلتها. هو ذات الصوت كلما اتحفتها بقبلة وقرصة في خديها رادة عليها صباحك ورد, وكم مرة اخبرتك اني لااقاوم ترافتهما.
يعلو صوت الاب: زينة لاتنسي ملكة الليل . حبيبتي اسقيها بماء حلو فهي لاتتحمل ملوحة الماء.من بين كل تلك الترهات استذكرتها .. شجرة الشرجبان ملكة الليل
التي كان يشبهها ابيها بها.تتجه صوب الحديقة تقترب منها .تسارع لسقيها .تشم عطرها الفواح .هي بيضاء ليست باسوداد ذلك الرماد والدخان .رائحتها زكية ليست برائحة ذلك الشواء .ادركت لم كانا والداها يعشقاها .يعشقا بياضها وعطرها .
تغدو الأيام وزينة بين صبر ويأس تسترق سمع اصواتهم من زوايا البيت .عطر أمها يصرخ. وذلك الشطرنج في الركن يصرخ ,وتلك المكتبة والكتب المركونة تصرخ ,اصوات لاتستطيع تمييزها .
احدى عشر عام مروا عانقت زينة فيها هذا الخليط من الأصوات والصراعات النفسية . لكنها في وسط هذا لم تنس يوما ملكتها التي كان يفوح عطرها كلما بدأ المساء . تسقيه تارة بالماء الحلو وتارة بدموع عينيها .كبرت هي وكبرت معها ملكتها. ازدادت قوة استمدتها من شجرتها تلك ومن ركام الذكريات,ومن تلك الارواح التي نسجت من أصواتها حديث المساء.
التعليقات مغلقة.