مناوشات حرب البسوس بقلم.عصام الدين محمد احمد
الجو مزكوم بالأدخنة والأغبرة.
الجنود يركلون الأرص ، يسيطر الارتباك على الجميع.
يشتد اللغط، ترتعب النفوس.
تتجول عيناى بين القدود ، لا أحد من أصحاب العمائم المميزة يظهر ، شربات تتدثر جلبابها البرتقالي، تتصدر الحشود.
تقترب مني، وكأنها تبحث عن كنف تستظل به، صدى سؤال يهاجمني:
أتطاردني ثانية ؟
القوات تنصب المتاريس على امتدادّ ساحل روص الفرج، ناقلات الجنود تبتلع كوبري الصنايع الرابط الحي بمنطقة رملة بولاق .
همهمات وصراخ وحوارات جانبية مفادها:
الكثرة تغلب الشجاعة .
تدنو شربات أكثر، تجاورني الوقوف ، أهينم:
آه منك أيتها المرأة !
تعبث بي المشاهد:
” أرص أقفاص كمثرى فى الفراندة.
ركود السوق يظللني بالسأم ، أهش الذباب.
البائعون يتوافدون للفرجة .
تساومني شربات للشراء بنصف الثمن .
وجودها يصيبتي بالقلق:
يا ست الله يسهل لك .
لن يأخذهم غيري .
جمالها الأخاذ يحثك للاستسلام ، ولكن الخسارة باهظة .
ربما تتودد إليها وتحظى بحضن دافئ .
أتخرج من المولد دون حمص من أجل ارتعاشة جسد ؟
تغادرني ، ولم تمض ساعة ، وعربة كارو محملة بأقفاص الكانتلوب تدهس بضاعتي .
طارت عصافير حلمي.
اقتحمت الساحة غربان الغضب .
وجدتني أشدها من فوق العربة.
أقبض على جدائل شعرها ،أهبتها فوق الأرض؛ يمين، شمال ،لكمات مستقيمة، لولبية ، تتطوح قبل أن يغُمى عليها.
ينزعوني من فوقها.
لم يتخلف مني سوى عضلات ثائرة ، ومخ عصره الخبل ، وخيل تيبست حركته .
انقسم الناس فريقين ، فريق يطببها ،والآخر يثبت عزمي متطوعًا بلم ثمار الكمثرى المنثورة هنا وهناك .
عدوت إلى المحل ، وامتشقت سنجة وشومة ، فالمعركة لم تبدأ بعد :
دقائق وعشاقها يتوافدون من شتى الأرجاء ، وأيديهم تقبض على الهراوات والسيوف .
لا وقت للتفكير أو التراجع ؛ فالموت آت لا محالة .
أى نعم الرعب ينغلني.
انحرفت أقصى يسار المربع متخذًا من الحائط درعا لحماية ظهري.
طقت عيناي شرارات تحرق العالم بأسره .
أثناء الاستعداد للقتال نهضت شربات وحالت بجسدها دونهم ، نهرت فرقتها المتأججة بالسلاح ؛ فانكسروا متراجعين .”
تمتطي الكلمات الأكتاف، أستبين بعص العبارات :
الضرب بالسيف ولا حكم الكيف .
وكأن النفوس تتعبأ معنويًا، ولكن الأبدان تبدو مهدودة.
ينسلخ التجار من نسيج الحصار.
يتسللون بين الدروب، وفوق المقاهي يقعدون.
فهم يمسكون العصى من المنتصف، ابتاعوا محلات فى السوق الجديد المقام في العبور؛ ولا يشغلهم مصير العمال بتاتاً.
طالت المداولات بين الأستاذ عضو البرلمان ومدير الأمن.
يفك الأستاذ رابطة العنق، يدير رقبته الموجوعة، يشير على الجمع برباطة الجأش، صوت مبحوح يتحشرج :
( اللى يبص لفوق توجعه رقبته ).
القائد القزم يشطر الأبدان المتحفزة ، يخب فى عدوه الواثق ، ينصح :
لا داعي للشغب .
الضباب يغلفني ،أجنح للجلوس فوق هشيم مصطبة .
لا مجال للتأمل ، ولا وقت للنكوص فى خُن النفس.
أتابع المحتشدين ، مع اندماج الأجساد وأنسلالها تترى الصور :
” أقعد فوق إحدى دكك قاعة الإدارية العليا انتظارا للحكم..
ذبذبات الكهرباء تتسرب إلى الحجرة ،يتلجلج الهدوء المعتاد.
يزعق الحاجب:
محكمة.
نقف مشدوهين، لا أحد يجلس.
مع جلبة الصياح والصراخ يعلن رئيس الدارة الحكم:
رفض طعن التجار وإلزامهم بالمصروفات.
أعصابي سابت وكأن جسدي لا يقدر على الانتصاب.”
تحتد نبرات القائد :
إخلاء السوق لا بد منه .
يقول رئيس المفاوضين :
الأرض ليست ملكا لكم ،ولكل معلم محل فى العبور .
يناور الأستاذ :
ما مصيرالشيالين الغلابة ؟
المسئول الشعبى بالحى يتفقه :
ميكروباص بخمسة جنيهات ينقلهم للعبور .
يتعجب الأستاذ :
البداية خمس جنيهات وبقدرة قادر تتبدل إلى عشر وعشرين جنيها .
يتوعد القائد :
لن يوقف الشغب تنفيذ الحكم .
أخترق الجموع المتلاصقة ، يتمزق جلبابي من جراء الاحتكاك ، أقترب أكثر من دائرة التفاوض.
النسور والسيوف والنجوم تلمع .
العبارات حادة وباترة ، الأستاذ يتمايل .
أردد في خفوت:
ما أيسر الكلمات فى أزمنة الرخاء !
تستجير شربات:
العدل يا بهوات .
يتحرش بها أحد الضباط فيزجره كبيرهم ، ولكن عدودة تنطلق من مرقدها .
يربت مدير الأمن على ظهرها الناعم الطري ، يدغدغ حواسه الملمس ، فيعيد المشهد ثانية ، تنسال منها التوجعات ، ينصحها :
العبور مثل روض الفرج ، بل فى العبور حدائق وكازينوهات وأرض واسعة لا تحيط بها العيون .
تتعطن الوجوه ، دوامات الجمهور تتسع أقطارها.
تلتهب القمامة بأعقاب السجائر .
كل فرد يدور حول الآخر، وكأنهم فى زار ، صخب الموسيقى يحفز الأجساد للرقص :
” نافوخى سلة مهملات ، عبد الخبير عطا يصول ويجول فى مدرج الحقوق شارحًا فلسفة الطرد فى الدول النامية، مؤكدًا سبق شهريار فى هذا المضمار .
أخيرًا طردنا متهماً عقولنا بالبلادة .”
يتسلق الأولاد العنابر فى لمح البصر ؛ لتمتليء الأسطح بهم .
نيران التأزم تشتعل بشتى الأرجاء ، المفاوضات لم تكتمل .
صليل الاحتكاكات تصم الآذان .
أمتطى حصان أوهامي .
أناضل طواحين الهواء العملاقة .
شربات تتدثر ثياب العُرى .
لا أحد يوقف جنوحها.
ينهطلون خلفها ، تسجنهم فى زنزانة دائرية ، سياجها أناس أصابهم الخبل ، بنادقهم المحشوة بالرصاص تتعطل.
السماء تمطر حجارة وزجاجاً ، تتوه الدلالات :
ما هذا الذى أراه ؟
أضحى العراك الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامى.
أنتفض الثأر البائت من مرقده .
اكتظّ الميدان بعربات الأسعاف.
يضيق الحصار .
أمارات الانكسار تكسو الجميع ، ساخت القبضات الفولاذية فى هلامية المشهد .
الجدر والأسطح والأرض والناس وخراطيم المياه يتداخلون ، وكأن سلطان العبث يمارس هوايته .
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.