منية قلب… قصة قصيرة بقلم/زكرياء نورالدين
سقطت دمعة من على أهدابي قاصمة ركبتي المقرفصة.
أ لهذا الحد ثقيلة؟!. ما كنت لأراني سوى بأوزارٍ حملت على الأكتاف، لم تنفعني ساعتها مناجاتي، توالت على الصراط سقطاتي. استقليت شاحنتي متجها نحو المجهول، أتتبع خريطة تلقفتها يدي بين كتب الروايات المنسية التي تركتها لي خادمة أمي التي ألفت غيابي و ألفت خدمة أمي المقعدة التي كانت تنتظرني من خلال تلك الروايات التي كنت ارسلها لها عبر البريد دون أن أضيف صورة لي أو حتى رسالة مشتاق، كنت ذلك الرجل الذي لا ينزل بمقام إلا و ترك جيناته دون أن يحظى بخليلة، مجرد عابر سرير لا غير أسأل نفسي ما الدافع وراء تتبع خريطة مكتوبة بيد عجوز قاربت التسعين من العمر و أنا على طول امتداد الطريق الذي كلما اقترب ابتعد، أدرك من خلاله أن زمن الكنوز قد ولى و لا أمل في تحصيل كنز أعيدُ به ترميم ذاتي قبل شاحنتي المهترئة و التي حملت مقصورتها أصوات العابرات من غريقات البحر و الصحراء و التي زكمها دخان السجائر المختلفة التي زفرتها و أنا أمسح على شعر صدري مطلقا العنان لنحنحة رجولتي المنخورة. أسير نحو قدر مرسوم بخط أمي المرتجفة، غيري لن يتبع تلك المخطوطة فلا شك أنها مجرد خربشة لأم لم تدرك بعد قميص ابنها على وجهها لعلها تأتي بصيرة بعدما رمتني دموعها خارج نقوش ذكراي من على جدران قوقعة مقلتيها، بل أظنها لطالما انتظرت ريح ابنها كلما قدمت على قوافل المتوجسين منها خيفة و هي تسأل: إني لأجد ريح ابني لولا أن تفندون…!
لم اكن يوسف وجودها، بل كنت كغير المسيح بارا بفقدها و فرقتها ضاربا حضوري لديها بنفحة سيجارة و كأس و عابرة مقصورة.
انتهى بي الأمر بمركز بريدي يبعد عن قبر أمي مسيرة يومين بواسطة شاحنتي و مسيرة نصف يوم بدراجة نارية، لم أدرك انني كنت تائها بين الماضي الذي شغلني عنها و حاضري الذي أفقدنيها.
ناولت القابض بطاقة أمي الممتزجة برائحة الموت، نظرني بنظرة أدركت من خلالها ما أضعت من وصايا لقمان لابنه فأحسست أنني آزر الذي قال:
_ أراغب أنت عن آلهتي…؟!
و أنا الذي لا أملك غير نرجسيتي و سقوطي داخل مقصورتي سلم لي مفتاحا أسود المقبض و به رقم واحد و ستون! لم أستغرب كون الرقم هو عام ميلادي من القرن الماضي، توجهت صوب الصناديق المتراصة في ردهة المكتب البريدي، فتحت صندوق البريد خاصتي، هي صورة واحدة و بعض الفواتير الواجبة السداد و قطعة قماش برائحة غريبة.
حملت بعضي و البعض الآخر أكله القابض بنظرته التي جانبت مسامعي بشتيمة لم أتعجب منها فأنا كذلك: رخيس…!
كانت الصورة لأمي و هي تحملني و المحرار بفمي لم أفطم ساعتها و ربما كنت كذلك ساعة استسلمت للموت وهي على أمل بضمي لها كما تضمني بالصورة بين يديها، حتى النظرات لا اختلاف بهما عدا نظرة القابض لي و الذي كان يدرك أنني ممن يقال فيهم: ثكلتك أمك…!
تفقدت الخرقة التي كانت تلف شيئا أسودا صلب الملمس غارقا في القليل من القطن، قلبت الصورة كنت من خلالها أسمع صوت أمي قائلة: تلك سُرَّتك؛ ما كنت بقادرة على دفنها و أنت جزء مني و هي من ربطتني بك و الآن و قد دفنني بعض جيراني دون شاهد أو تأبينة أرجو أن تعيدها سيرتها الأولى مجرد حفنة من تراب.
جلست القرفصاء و دونما وعي سقطت دمعة على ركبتي و كم كانت ثقيلة، و من غير توجس تراءى لي صراط مسيرتي أدركت من خلاله كم كنت مجرد رجل حق فيه قول: ثكلتك أمك.
التعليقات مغلقة.