من أوراق مقاوم…بقلم عصام الدين محمد أحمد
تتلاحق الأوامر:
تقدم يمينا..انحرف يسارا..قف..
لا بد للعقل أن يستوعب.
الصراع- الآن- لا يحتمل الخطأ؛ من الضروري – الآن- كبح جماح الهرولات، فالواجب يحتم التعقل!
يختبؤن داخل دباباتهم، لا يمكنهم مغادرة دروعهم!
الأشجار تكتنف المكان، الدور المهدمة منثورة على مدى الأفق، تتقاطر الدبابات، الموت يحيط بي من كل جانب، أطلق شلالات المقذوفات،أقراني يدمرون الدبابات،أمسى الصيد ثمينا، لا بد من أصابة الأهداف بإحكام، الغبار والأدخنة يرسمان السماء،تتزلزل الأرض، تتبركن، الحديد المنصهر يفترش القاع، أعدو خلف فلولهم،الأمر بالانسحاب يكبلني، يطوق قدميّ بالفولاذ.
أتراجع، لا مجال لارتباك الفكر.
أهرول من حقل إلى مدق، أعبر خندقا مستقرا في نفق.
ها نحن نقيّم المعركة، نتدارس الأخطاء، نعد للمعركة القادمة.
منحنا القائد ساعة للراحة.
أنتحي جانبا، أجرب الإعفاء، تفشل محاولاتي،ت طاردتني الذاكرة:
منذ ما يربو على العام لم أر أمي وأسرتي،لا أعلم عنهم شيئا، ربما باتوا شهداء!
أخبار قصف الدور وتدميرها على رأس ساكنيها لا تفارقني، فهؤلاء المجلوبون من شنى بقاع الأرض لا يملكون قلوبا، عجنتهم القسوة بدقيق الكراهية، جنودهم أمامي فئران مذعورة، لكنهم يملكون طائرات شيطان الجحيم وضمائر العالم الضريرة، بفرتكون آلاف الأطفال والنساء وكأنهم دُمى!
على الأرجح أنكم شهداء الآن!
هذا ما يدفعني قسرا للثأر !
منذ عقدين ونيف أعد نفسي لهذه اللحظة، واليوم تعملق المارد القابع في جوفي!
ها أنتم تدركون الآن أنني لم أبع ولم أهب الأرض ولم أفرض في العرض!
منذ صبرا وشاتيلا والألم يكويني، يوجعني، دوما مطارد ،ينشرون الصور المخزية على شاشات الخذلان، ألم يأن لي النصر؟!
ماذا تفعل لو تبادلنا المواقف؟
أتهرب كما هو حالك الآن؟
ألم تحثك أمك على الدفاع عن كرامتك؟
أعتقد أنك في حال من الرخاء لا يتيح لك مبادلتي الشعور.
ستضع قدما فوق قدم وتقول:
الأطفال والنساء سيدفعون حياتهم ثمنا للمقاومة.
ستردد : لا تتحمل مسئولية ما تجاه أهلك!
هنا أدع أمي تجيب عليك:
لا تهتم لأقوالهم، لا يلوكون سواها، يبحثون عن التبريرات والتكاسل، فالموت يلاحقنا دونهم.
ستعزف لحن هدهدة الأعصاب:
ألم تؤرقك صور أشلاء الأطفال، ألم تذرف الدموع لفراقهم؟ ألم يتوجع قلبك وترتجف جوارحك؟
أي نعم لملمت الأشلاء،جمعت نثار اللحم في الأكياس؛أطراف وعيون وآذان ورؤوس ،جميعهم رضع،تغوص يداي في الدم، أتنتظر مني التراجع؟
لك أن تسأل:
ألم تحرق أطفالهم وتغتصب نسائهم؟
سأجيب بعيدا عن المراوغة :
مدنهم بغلاف غزة مكدسة بالكاميرات، فأين مشاهدهم؟
أضيف:
كيف يتسنى الاغتصاب والقتل معا؟ كأنهم يقنعون العالم بمشهد هزلي؛ أطلاق نار يصحبه مضاجعة النساء، فيلم هوليودي بامتياز!
أتصدق أنني كدت أنسى ملامح زوجتي الفتية، لا أذكر إلا ابتسامتها لحظة الوداع!
في المخيلة سؤال ملح:
ألم تأسر المدنيين الإبرياء؟
رائع وصفهم بالإبرياء! قوام هذا الكيان الأسلحة؛ فجميعهم يشرعون بنادقهم في ظهورنا،فكيف تِسمهم بالبراءة؟ ما قولك في أسرهم الآلاف من أعمامي وأخوالي؟!
فلندع النقاش جانبا؛ فالقائد يصيح عليّ.
أمتشق رشاشي، أواجهه صلدا، يقول بصوت جاف:
تأكد لدينا أن عائلتك نالت الشهادة،
اختلطت في وجداني المشاعر؛ أسى يغلفه الحزن، حيرة يؤطرها الفرح، دموع الفراق تبلل وجهي، امنيات اللقاء تشد من أزري، أرتجف، يقترح القائد إراحتي، أرفض، يمنحني شارتي.
نتسلل من النفق، نعدو،نتخطى الركام، صورة أمي لا تفارق مخيلتي، نحيب الأطفال أسفل الأنقاض يتصاعد،يعلو، أطرافهم المبتورة بالفسفور متراشقة على جانبي الطريق، توسلات الأطفال الباحثين عن أمهاتهم تأز، صرخات الأمهات الثكلى تفترش الأثير، صوت أبي الجهوري يلازم تحركاتي:
تقدم يا عبد الله.
لا تعد وكرامتنا مسلوبة.
تمت بحمد الله
عصام الدين محمد أحمد
التعليقات مغلقة.