من اسم حركي ” ما بعد التحقيق” …محمود حمدون
من اسم حركي ” ما بعد التحقيق” …محمود حمدون
الناشر : مركز الحضارة العربية – القاهرة
===
أفقت على صوت المحقق: تزيد حيرتي دقيقة بعد أخرى , فإن تغاضيت عن جميع ما قلت , رغم أنه ثابت بالأوراق أمامي و أشار لملف مترع بمستندات , و ما ذكرته و ليس مُدرجًا هنا : نحن نراقبك منذ سنوات , كلما اقتربنا من دليل يُدينك إلاّ ظهر آخر يناقضه , بسببك أصيب بعض فريق التحريّ باضطرابات نفسية , منهم من اعتزل العمل , ومنهم من التحق بآخر أقل مشقة على النفس .
تبدّلت على ملفك كثير من الجهات , أتعلم أنك تسببّت بحرج كبير.!
= لا أدري , أي حرج ؟!
= أحدثت بقصد أو بدون ” دربكة ” بين تلك الجهات , فالتقارير حولك تضاربت بشدة , حتى أن بعضها يكذّب بعضًا , كلها تؤكد أن المعلومات المتوافرة عنك شحيحة و أننا لا نعلم من نتعامل معه.!
كنت أنظر إليه بطرف خفيّ .. أحلل كل كلمة يقولها , أزن كل حرف منها بدقة .. عقلي يعمل بسرعة شديدة حتى خُيّل إليّ أني أسمع تعارك خلاياه برأسي .. شعرت بصداع شديد فسندتها براحة يدي اليمنى , أغمضت عيني قليلاً..
فصحوت على تعنيف : تنام و أنا أكلمك؟؟ , هكذا ؟ استهتار أم استهانة بما تواجهه ؟
= لا هذا و لا ذاك .. كل ما هنالك أني لا أعلم لمَ أنا هنا ؟ ماذا فعلت من ذنب أو جُرم ؟
-قلت لك .. تضاربت التقارير بشأنك .
= ما ذنبي أنا ؟ لمَ تراقبوني ؟
بتجاهل واضح : الثابت لديّ أنك تعتاد الجلوس بمقهى صغير على قارعة طريق فرعي , صح؟
= و ماذا في ذلك ؟
-على الإطلاق , فقط أرى أنك تجالس بعضهم , شخصيات تحيط بها شبهات , تصادقهم , تمازحهم , ربما تصرفك هذا رفع عنك بعض الضرر الذي كاد يقع عليك .
نظرت إليه بعين نصف مغمضة إثر إرهاق التحقيق , السهر لفترة طويلة , غياب القهوة .. لم أعقّب على حديثه , فقد انخفض مستوى وعيي لأدنى مستوياته , لم يتركني في شأني , أردف بغلظة : ما علاقتك ب ” صالح ” ؟!
-رفيق , ثم تداركت الكلمة لحساسيتها , بل زميل مقهى .
-أتعرف أنه من غلاة المرتشين بالحكومة ؟ يعرف كيف يستفيد من عمله , لماذا تصاحبه ؟
= السؤال الصحيح , لماذا تركتموه حتى أصبح هكذا ؟ .. قلت لك هو زميل مقهى , بداخله مسحة بياض تشع فتضيء عتمته الداخلية , أتكئ عليها علّي أعرف من أنا .
لا أفهمك , حسنا , ما علاقتك بالآخر ؟!
= من ؟
السيد ” ف ” ,
= شخص لطيف العشرة , ضحوك , يضفي على الجلسة بهجة أفتقدها كثيراً ,
لكنه لص ,
= لص ؟
-نعم , حرامي يعني , يعرف كيف يسرق الناس ..
= ربما ترونه لصًا , لكنه لم يسرق منيّ شيئًا , بل نحن من يجالسونه من نسرقه.
-أنتم تسرقونه ؟ كيف ؟
= نعم نسرق بعض بهجته , صدّقني , يأتينا مرحاً مبتسماً , يتركنا و قد غارت ابتسامته و حل مكانها وجوماً شديداً , فمن يسرق الآخر ؟ أخبرني أرجوك ؟
ضحكة خبيثة على وجهه , بصوت ثعباني قال : تتردد على ” ” بمنطقة نائية , لا يبعد كثيراً عن ذلك المكان الذي يجتمع فيه تنظيمكم ” الشيوعي ” .. قاطعته : تقصد الماركسي ؟!
-بضيق , ما الفارق ؟
= الماركسية فكرة , إطار نظري فلسفي عن المجتمع و كيفية الارتقاء به , فإن تحوّل لعمل تنفيذي أي وضع النظرية موضع التطبيق , أصبح شيوعيًا , من الضروري أن تعرف الفرق بين المفهومين..
ثم همست لنفسي :كيف أصبح هذا الرجل , ضابطاً ؟ وسيم كنجوم السينما , دمث الخلق , عفُّ اللسان , سواء أجاد تمثل دوره , أو رغبة في استمالتي بصورة مغايرة عن رجل الأمن غليظ الطبع , شدّتني تلك الصورة التي يُصدّرها عن نفسه ويروجها بين روّاد مكتبه و أنا من بينهم ,
نظر إليّ المحقق طويلاً , كمن يبحث بصبر عن نقطة ضعف لخصمه , تجاهل تعليقي على حديثه , عقّب بقوله : ماذا تفعلون بهذا الوكر ؟
= الحق أنني أجد في ذلك المكان صحبة من الناس , نجتمع حول غاية محددة , تدخين الحشيش , و مشاهدة راقصة عجوز , لا تعرف عملاً تتقوّت منه غير الرقص .. لا أعرف حق المعرفة الموجودين , فقط أدري جودة الصنف المتاح , جلسة هادئة لا تخلو من مرح خفيف , وقت مستقطع من سخافة الحياة .
-حشيش ؟ مخدرات ؟
= كأنك فوجئت ؟ ألم تذكر التقارير شيئاً عن ذلك ؟ تراخي الأتباع ينبغي ألاّ يمر مرور الكرام , أدركت من زيغ عيني المحقق أنني قد امتلكت خطوة للأمام , انتقلت من خانة الدفاع لمرحلة أخرى .
على أن نشوة التشفّي لم تستمر طويلاً , إذ عاجلني ذلك الخبيث بسؤال أشد خبثاً من طويّته : فماذا عن بيت ” الدعارة ” الذي تُدمن الذهاب إليه ليلة كل سبت ؟ عجيب أمرك , ظهر الجمعة تصلي بالمسجد جماعة خلف الإمام ” الدكتور ” , وعقب صلاة العشاء تقضي ليلتك بين المقهى أو وراء شهوة حيوانية ..
درس تربوي بدا أن المحقق يرغب في توبيخي من خلاله , توقعت حديثه, بنيت ردّة فعلي على أسئلته .. فلذت بصمت و بسمة ساخرة على وجهي , أعلم أنها ستثير حفيظته , تُخرجه من تحفّزه الأمني ناحيتي ..
= ليس لديّ ما أخجل منه , لا أشغل منصباً عاما أخاف فقده , كما لست مثقلاً بديون مُجبر على سدادها لأحد , فلا تظنن أنك لويّت ذراعي بحديثك , فما ذكرت يخضع قانوناً فقط لحالة التلبّس , أجزم أنها غير قائمة في هذا المكان .. نظرت حولي ساخراً .
قال = تذهب إلى أماكن مشبوهة , ذلك ذنب إداريّ يرتقي للمخالفة التي تردك مورد شبهة , يمكنني أن أبعث لرؤسائك لمحاسبتك ,,, بطرف خفيّ لمّح : قد تُفصل من عملك .
لا يزال المحقق ممسكاّ بطرف خيط الحديث : رغم أنك مرتبط بفتاة حسناء , تدخّن الحشيش , تتردد على دور العبادة , تذهب صبيحة الأحد للكنيسة , لا تفوتك صلاة الفجر , تُقبل على دروس الأخوة بصدر رحب تعجبك أفكارهم , ثم تنطلق بوسط الأسبوع لتلك الخلية الشيوعية ..ثم لا تنسى أصحابك من ” البلطجية ” و اللصوص , تختلف إليهم كل فترة تسامرهم , تضاحكهم ,كأن بينك و بينهم حبل من ودّ أو لغة مشتركة.!!
تصحب ” خطيبتك ” تلك الفتاة الرقيقة إلى الندوات الأدبية , تشجعها , على كتابة الشعر , تتذوق القصة فإن انتهيت أسرعت من فورك لتلك المواخير , حيث الساقطات و غيرهن ..
أجبته ببرود = افتراءات , تاريخكم طويل في تلفيق التهم , اصطناع الأحداث , لا غرابة أن تحاججني بأدلة تفوق ما ذكرت , ربما ذهبت يوما لمكان كتلك التي ذكرتها , بدافع حب استطلاع أو بصحبة زميل من المقهى ,عالم غريب أردت الاقتراب منه , فدون خوض التجربة لا يحق للمرء أن يحكم بدقة على شيء . أمّا ” موني ” خطيبتي !, تلك الرقيقة كما ذكرت أنت , هي الحُلم الذي أفيق منه لرؤية مسوخ مشوّهة , زيف من كل صوب , هي المعادل الموضوعي لحياتي كلها .
-يعني ايه ” معادل موضوعي ” لم ترد هذه العبارة في التقارير الكثيرة الموجودة بالملف ؟ ماذا تقصد؟
= بتأفف , أقصد الجانب المضيء , وسط ذلك الظلام
ضقت ذرعاً بحديثك , يبقى سؤال , كن صادقاً معي , فالكذب لا يجدي , كما يورد صاحبه تهلكة أنت في غنى عنها : هل حضرت مظاهرة سياسية من قبل ؟
= نعم , لكم هفت نفسي لحضور المظاهرات السياسية بالكلية , فيها تنفيس عن النفس , بائس من لم يسير بتظاهرة , هي تجربة ينبغي ألاّ تفوت أي شاب جامعي .
سألني :خضت مظاهرات مع شيوعيين ؟
صححت عبارته : الماركسيون, قوم يغلب عليهم طابع الخوف والقلق ,يرون أن الدولة بأجهزتها الأمنية و من وراءها الجماعات الدينية تتبعهم , تناصبهم العداء.
وهم محقون في ذلك . فالأوّلون يترصّدونهم و الآخرون يكفّرونهم , مع ذلك هم على درجة عالية من الثقافة و يملكون قدرة عالية على التحليل السياسي لأي موقف عادي أو طارئ لكنها تحليلات تعتمد على فكر وفقه سياسي نظري , يؤمنون برأيهم فقط . بمعنى آخر أنهم لا يختلفون عن الجماعات الدينية سوى في طريقة التعامل وتقبل الآخر .
لقد قرأت منشوراتهم سواء الصادرة عن الحركات اليسارية أو الحزب الشيوعي المصري,, لغة عميقة دلالات و رمزيات كثيرة , تفسيرات غامضة أحيانا , استعداء ضد الدولة دون مبرر , اقتناع لا نهائي بقرب انتهاء الرأسمالية المستغلة و سيادة الفكر الشيوعي .
و كما كانوا يملكون قدرة على التفسير لكل شيء في الحياة , لكنهم عجزوا فعليًا عن تبوأ مكانة أو تحقيق أي أهداف لهم فلم أجد لهم تواجدًا بالجامعة إلاّ على استحياء في ظل وجل و رعب و شك مفرط يسيطر عليهم من كل شيء . مبعث الحيرة أن يستقطبك كل طرف آمراً , آملاً أن تلغي عقلك أو أن تدعه جانبا وأنت في حضرة فكرهم ومعتقدهم .
-لم تجب عن سؤالي , أتراوغ ؟!!
-أي سؤال ؟ فأنت تسأل كثيراً ..
-هل انخرطت بمظاهرة سياسية من قبل ؟
نعم , فعلت حضرت كل التظاهرات التي مرّت أثناء وجودي بالكلية , أتذكر أنيّ حضرت أكثر من واحدة مع الإخوان .
= ” الإخوان المسلمين” ؟ صيحة رعب أطلقها المحقق , قلّب في أوراق الملفّ بحثاً عن دليل , نظر إليّ و قد غامت الرؤية بوجهه , كمريض يحتضر منذ ساعات .. ثم بصوت أقرب لفحيح : من أنت ؟ لماذا تفعل ذلك؟
= أفعل ماذا ؟
تفعل ماذا ؟ ألا تدري ؟ ثم ما تلك البراءة التي ترتسم على وجهك ؟ يُخبرني حدسي الأمني أن وراءك كارثة .!
= أنا مواطن بسيط , أصادق الجميع, بيني و بينهم مسافة واحدة لا أقترب لأصبح درويشاً , كما لا أبتعد غير مبال, مشيت وراء كل خيط وسرت نحو أي نور لمع , لربما أجد هدى أو أستقيم بعد اعوجاج , فأنا الضال كما قيل لي قديماً , ضلالي صورة معاكسة لُهداكم , اقتربت حد الغرق في كل تيار أو جماعة قائمة , رأيتكم جميعاً كلٌّ لا يتجزأ , أنغمس من رأسي لأخمص قدمي ثم أجدني أنتشل نفسي بإرادتي أرقبكم من بعيد , لا أعلم أيّكم على خطأ , لكنيّ أدركت أن الصدق درجات , كدرجات اللون الرمادي ما بين الأبيض والأسود .. بينها تأرجح عقلي .
= كيف جمعت كل هذه التناقضات ؟ كيف مارست كل هذه الطقوس و حافظت على توازنك بينها بدقة هكذا ؟ أجزم أنك داهية , لم أقابل مثلك من قبل .
يا سيدي : ببساطة و دون مواربة أو مناورة , مأساة حياتي أنني كرهت مبكراً المبادئ , كلما سمعت كلمة منهج أوشكت على التقيؤ , فلماذا تحصرني في دائرة لا تملك أنت نفسك فراراً منها ؟
أنت يا سيدي خارج هذا الزي الذي ترتديه لا قيمة لوجودك , تفتقد هويتك , مهنتك , بدلتك هي سر قوتك في المجتمع .. لكن المجتمع نفسه من داخله يتفتت لمجتمعات أصغر ثم أصغر .. فنحن للحق جملة من مجتمعات تنضوي تحت فكرة ” الخطر و التوازن ” كأنها عقد من حبّات من حجارة رخيصة , يجمعها خيط واهي .. قد ينقطع تحت أي شد و جذب ..
أنا على العكس , أدركت مبكرا تلك الهشاشة , أيقنت أن كل شيء زائف , لكل فرد دور فُرض عليه , أدوار وُزّعت بعناية .. حتى تستقر الأمور كما تريدون .
كان المحقق يستمع إليّ , يمسح رأسه بيديه , عرق ينهمر من وجنتيه , أعلم أن حديثي قد أرهق عقله , أصاب منه نقطة ضعف , فهو في النهاية واحد من الناس يعمل على حفظ التوازن , يقاتل دون أن يتحقق الوعي .. حينها هاجمته بسؤال كررّته طوال التحقيق : الآن ما تهمتي ؟ لماذا طلبتم مثولي للتحقيق ؟
= سنطلق سراحك , فلا تهمة جاهزة لك , لكن حتماً سنجد , أنت خطر على الجميع , ماجن أو عربيد !! ربما , لكنك أيضا فوضوي ترغب بسلوكك أن تقوّض أركان الدولة , لست عنيفاً, لا تنظيم سياسي أو ديني يقف خلفك . لا مبدأ لك نعلم ذلك جيداً , فبدون منهج يسير عليه الناس , يختفي كل شيء أو يفقد معناه .
= حدّقت بصورة تعلو رأسه , نسر الدولة ينظر بغضب و لست ادري لم ! , يضم جناحيه , لربما ضاق بإطار وُضع فيه غصباً , التفتُّ إليه و قلت : المؤدلج لا مبدأ له ..
رد بحنق و غيظ باد على وجهه : الحق أنك وحدك خطرا علينا, على المجتمع فمثلك يهدم ما استقر من صراع . بدون أزمة و صراع لا حياة بشرية بالمجتمع , بل تنتفي العلّة من الوجود , للوعي حدود ينبغي أن يقف عندها .. فإن تجاوزت فقد جاوزت و غاليت , النهاية أنت مجنون ..
قلت له , بتهكّم و أنا أغادر مكتبه : الجنون نوع من الوعي الصادق..
التعليقات مغلقة.