موسوعه أدبية شاملة

teen spreads her legs for jock.https://fapfapfaphub.com

من ذكريات القهوة د. علي زين العابدين الحسيني

265

أنا لا أحبّ التغيير، ذلك التغيير الذي تنفق فيه وقتاً في البحث عن شيء جديد، يحتاج هذا البحث إلى تفكيرٍ وبذل جهدٍ.
أنا موقن أنّ الولوع بكثرة التغيير ضرب من أضرب ضياع الأوقات!
تبدو الأماكن كلها في المظهر العام واحدة، ما فيها من اختلاف هي فروق يسيرة لا تجعل الشخص يغامر في اكتشاف مكان جديد يضيع به واجبات مهمة في حياته.
هذه تجربة التغيير! لكن هل تفيد؟
أرجو ذلك!
تلك القهوة التي نجلس فيها، عرفناها صغاراً، ثم توطدت العلاقة بيننا على مرّ الأيام، صارت ملاذاً لنا عند التقلبات المزاجية، نختلي فيها أحياناً حينما نريد كتابة شيء.
لا أدري لماذا يريد أصحابي فجأة تغيير جلستنا الأسبوعية إلى مكان آخر، ذكروا أنه أحدث منها في بقعة راقية، اتفقوا فيما بينهم على أنه أليق بنا من الناحية الاجتماعية.
ذات مساء اضطررت للذهاب معهم، حاولت طيلة الطريق أن أرجعهم عن رأيهم، لم أستطع.
ها نحن وصلنا المكان الجديد في الحي الأنيق، لم أشعر بتلك الروح التي كنت أشعر فيها هناك حين دخولي، الألوان باهتة، الموسيقى صاخبة، قد تكون ملفتة للنظر في منظرها العام، لكن دون معنى حقيقي، الوجوه التي أراها متغيرة، يظهر عليها يسار المعيشة، لكنها حزينة.
ليس الغنى أساس راحة البال!
افتقدت في تلك السويعات أستاذنا المثقف الذي كان يجلس بجانبنا وبيده جريدة يقرأ فيها، أمامه الشاي المنعنع الطريف، إذا كان هناك خبر هام أخبرنا به، أو منفعة عامة دلنا عليها، عرفت عن طريقه مقالات الأستاذ أنيس منصور، قرأت أول مقال له بواسطته.
من حين لآخر يهدي لنا المجلات والكتب، لا يمرّ أسبوع حتى نتعرف على شخصيات جديدة وأحداث مفيدة.
تدخل علينا الإجازة الصيفية، الأجواء جميلة، وأوقات الفراغ كثيرة، يقترح علينا أن نذهب معه إلى الهيئة المصرية العامة للكتاب، نشتري كتباً متنوعة، نحاول قراءتها في هذه الأيام، كان مشروع “القراءة للجميع” مقصد الجميع، تكونت مكتباتنا من مشروعات الهيئة.
لا أنسى أيضاً الزاوية البعيدة من القهوة يجلس فيها رجل أنيق، يخرج من بيته إلى القهوة في حلة بهية عند قرب غروب الشمس، يجلس وقتاً محدداً، يقوم بحلّ الكلمات المتقاطعة، وبيده فنجال القهوة السادة، على يديه عشقت رائحة وطعم القهوة، من حينٍ لآخر يختبر معلوماتنا، عرفت منه كثيراً من عواصم البلاد وأنا صغير، قد يأتي للجلوس معنا حينما ينتهي، يخبرنا عن رحلاته وأسفاره، نستنشق من كلامه التشوق لعالم مجهول.
في بداية حياته كان من عشاق السفر، قيدته ظروفه المادية، منعه الحصار العائلي من السفر لسنوات، كانت قراءة كتب المسافرين والرحالة وبعض الروايات هي بديله، حتى أتيح له السفر من خلال عمله الصحفي، صار السفر من لوازمه، سافر بلداناً كثيرة، جمع كثيراً من طوابع البريد، والعملات الورقية والمعدنية، تحولت مكتبته إلى متحف يحوي كثيراً من القطع السياحية التي جلبها من مختلف البلدان.
في وسط القهوة على مكانٍ مرتفع يجلس صاحبها، نزلتُ مسرعاً هذا المساء لمقابلة صديق عزيز جاء من خارج الحي يزورنا، دون أن أحمل معي حفيظة النقود، قدمنا له أفضل المشروبات، فوجئت عند دفع القيمة أني لا أحمل المحفظة.
ماذا أفعل؟
وسط الأصحاب التفت لمالك القهوة وهو يشير إليّ من بعيد رافعاً صوته، قد وصلت قيمة المشروبات، هي تحية تقدير لزميلكم.
أصابتني دهشة!
كيف عرف بأمري؟
لا أنسى ذلك الرجل الذي كان يمرّ علينا ومعه حقيبة يحمل فيها أشياء خفيفة يحتاجها الناس في حياتهم اليومية، يجلس بيننا ليستريح قليلاً، هي فرصة أيضاً لعرض بعض بضاعته، أتى من أقصى صعيد مصر بحثاً عن الرزق، استقر به المقام في هذه المدينة، يحكي لنا حكايات كثيرة عن القرى التي دخلها، المدن التي زارها، وأغرب ما في شخصيته -وكلها غريب- القدرة الفائقة على السرد والحكي، كان الجلوس مع هذا الحكّاء العظيم كافياً لكتابة قصة قصيرة يومياً.
ما أحسن هذه الحياة!
الحياة في الشوارع مع الناس، في المقاهي، في محطة القطار، في محطات النقل العام، اكتشفتُ فيما بعد أنها زاد الكُتّاب للكتابة عن أحداث المجتمعات، هي كذلك خبرة في حياتنا، فالكثير من المواقف تتشابه، إذا كنت على معرفة بالأحداث السابقة فيمكنك أن تختار المناسب لك مستقبلاً.
كم هم مساكين الذين يقبعون في بيوتهم، يبتعدون كل البعد عن حياة البسطاء، هل هناك نعيم في الحياة أكثر من أن تنزل لأماكن هؤلاء تتحدث إليهم ويتحدثون إليك؟!
بين بيتي وبين محل دراستي مسافة بعيدة، أقطعها يومياً متنقلاً في المواصلات العامة، كانت بالنسبة لي كافية للتعرف على حالات الناس المختلفة، كنت أستمع إلى من بجواري أكثر من أن أتحدث إليه، فقد حبب إليّ منذ الصغر الاستماع للآخرين، ومعرفة تجاربهم، والتعلق بأخبارهم.
في المكان الجديد تغير الاسم والمسمى، فالاسم “كافيه”، والمسمى مختلف كثيراً عنا، يجلس شباب لا لون لهم، صارت المشروبات بأسماء غريبة، لم نعهد عليها منذ آبائنا الأولين!
أهؤلاء يسكنون معنا!
أهؤلاء يعيشون بيننا!
أهؤلاء نعيش معهم!
أصوات صاخبة، حركات مزرية، ضحكات عالية، اقتحام لحريات الآخرين، ضياع للآداب العامة، تغيير للأذواق الأصيلة، كلمات تقرع سمعي جديدة، لم أسمع بها منذ وعيت على هذه الدنيا، يتهادون الكلمات البذيئة فيما بينهم، خيل إليّ أن ثم مخلوقات غريبة استوطنت وطننا.
ما أقبح أفعالهم!
يتراءى للناظر إليهم للوهلة الأولى أنهم أرباب رقي، حينما تقترب منهم وتدقق في أمرهم تستنكر عليهم أفعالهم، أجسادهم قريبة، أرواحهم بعيدة، نظراتهم غريبة، كلّ شخص مشغول بهاتفه، يعيشون في تيه وفراغ ذهني، لا قيمة لاجتماع الجسد دون تواصل قلبي، تحسبهم جميعاً وأرواحهم شتى!
أصبحت عقولهم مستأنسة لكلّ خارج عن القواعد المألوفة!
حقاً .. هذا المكان ظاهره التمدن وباطنه الأمية!
جلسنا، تحدثنا، شربنا.
كان صاحبي صامتاً طول الوقت، طلبت المشروب المفضل له، لاحظت أنه لم يتناول منه شيئاً، فجأة ارتفع صوته، فأوقع خيفة في قلوبنا.
نادى بأعلى صوته، هلموا يا أصحابي إلى قهوتنا، إلى عهدنا الأول، نستنشق منها الأدب، نسمع فيها ما يسرنا، نجلس مع مَن يسعدنا.
لا عليكَ، نحن معكَ.
أنتَ يا صديقي ما تحملت أن نجلس بجانبهم، فصدورنا تضيق بالأخلاق السيئة، تحتقر الكلمات البذيئة.
الأشخاص دائماً مخدوعون بالأسماء البرّاقة، والأماكن الجديدة، لكن سرعان ما يكتشفون الخداع باسم التجديد!
ليس كل جديد نافعاً!
لا راحة في مكانٍ يتخذ الآداب السوقية منهجاً في معاملاته!
لا خير في أناسٍ يخرجون عن الآداب العامة!
اهتدينا في الأخير أن نعود كما كنا في ملتقانا القديم.
كانت تجربة، ليست كل تجربة نافعة، فكثرة التجارب مع عدم وضوح الرؤى دليل الإفلاس وضرب من الجنون!

التعليقات مغلقة.