من عكّر الحياة في كوكبنا الأرضي الوحيد بقلم د . قاسم المحبشي
من عكّر الحياة في كوكبنا الأرضي الوحيد بقلم د . قاسم المحبشي
فيما يشبه التعليق على الصاروخ المنفلت من عقاله
كانت الصين البعيدة هي الأرض الطيبة كما وصفتها الروائية الأمريكية بيرل باك عام ١٩٣١م وكانت السماء موطن النجوم والكواكب والغيوم والرعد والبرق والمطر ومبعث الرجاء والحلم والخير والأمل وملاذا شاعريا للشعراء والفلاسفة حتى سنوات قليلة مضت فما الذي احالها إلى مصدر للخوف والرعب والتوجس؟ أنه العلم والتقنية المنفلتة من عقالها وهذا هذا هو معنى قول الفيلسوف الفرنسي شارل لوي دي سيكوندا الشهير ب مونتسكيو توفى ١٧٥٥م إذ كتب: ” أنني أرتعد فرقًا مما سوف ينجم عنه التطور العلمي التقني في المستقبل؛ سيكون أحفادنا اذكاء منّا ولكنهم لم يكون أسعد منّا ابدا” تذكرته وأنا اتابع اخبار الصاروخ الصيني لونغ مارش 5 ب” المنفلت عن السيطرة وتداعت الى ذهني عبارة كتبها الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر عام 1960 قائلًا «في بداية عام 1959 أعلن رئيس مجلس الوزراء السوفياتي «خوروتشوف» مفتخرًا بأول مركبة إنسانية تغزو الفضاء قائلًا (نحن السوفييت الأوائل في العالم الذين استطعنا أن نخط في السماء انطلاقا من الأرض وصولًا إلى القمر مدارًا من نار)! ويعلق هيدجر على تبجح «خوروتشوف» الذي لا أحد يستطيع أن يدحضه بالقول: قبل كل شيء يجب علينا أن نزن محتوى تصريح خورتشوف؛ «إذ من المؤكد أنه نفسه لم يفكر بمعنى ما قاله؛ ذلك لأنه لم يعد من وجود للأرض ولا للسماء بمعنى السكن الشاعري للإنسان على هذه الأرض، فالمأثرة التي أنجزتها المركبة الفضائية الروسية هي التجسيم الفعلي لما هو كائن منذ ثلاثة قرون، و قد طرح ورتب وانبسط على أنه العالم «الطبيعة» الأرض والبحر والسماء كمجال حيوي وفضاء مفتوح لنشاط الإنسان المتعالي ويضيف: إن مدار المركبات الفضائية يدفع بعنف الأرض والسماء إلى لجة النسيان، فلم يعد هناك لا أرض ولا سماء، بل عالم إنساني واحد وكون لا محدود ولا نهائي، ولا يوجد سوى قلة من الناس لا حول لهم ولا قوة، ما زالوا يعتقدون أن التغير الذي طرأ على العالم من خلال غزو الفضاء ليس في حقيقة أمره إلاَّ امتدادًا طبيعيًا للثورة العلمية والتقنية الأوروبية التي بدأت مسيرتها في القرن الخامس عشر الميلادي»، بهذا النص الفلسفي العميق، استطاع الفيلسوف هيدجر تلخيص الموقف كله، وهنا تكمن أهمية الفلسفة ونفاذ بصيرتها فيما يتعلق بالمشكلات الكلية والأسئلة الكبرى في العالم. وفي السياق ذاته تذكرت ما كتبه الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار في كتابه المهم( الوضع ما بعد الحداثة تقرير عن المعرفة ) إذ أشار الى أن الصراع اليوم لم يعد صراعا على الأرض والثروة المادية الفجة كما كان في الأزمنة القديمة بل هو صراع على المعرفة وامتلاكها بوصفها قوة السيطرة والتحكم في عصر العلم والثورة العلمية والفضاء هو ساحة معركتها الجديدة فمن يسيطر على الفضاء سيطر على الأرض. هذا هو المعنى الذي سطر بالذاكرة منذ عشرين عام حينما قرأته؟ لم يحدث في تاريخ الاجتماعي منذ حواء و آدم وأنت طالع أن توحد العالم كله كما وحده اليوم من داخله فيروس كورونا المجهري وأكد وحدته من خارجه صاروخ الصين المنفلت من السيطرة. فمن الذي كان قبل بضع سنوات يعرف ماذا يدور في الصين؟ وما الذي كان يتوقع أن فيروس مجهري يمكنه أن يربك المشهد العالمي من رأس حتى أخمص قدميه؟ ومن الذي كان يتخيل أن مكة المكرمة تخلوا من الزائرين وكذلك المسجد النبوي الشريف ؟ ومن الذي كان يخطر بباله أن الكنائس والمساجد والمدارس والجامعات في عموم العالم وفي بلاد العرب والإسلام تغلق أبوابها في عز النهار ؟ ومن الذي كان يتخيل أن أمريكا بكل جبروتها ترتعد فرائصها من فيروس كورونا؟ ومن الذي كان يتخيل أن ينتشر وباء فيروسي من أقصى شرق الكرة الأرضية إلى أقصى غربها في بضعة أيام؟
ومن الذي كان يتخيل أن صاروخا أرضيا انطلق من الأرض باتجاه الفضاء فشذ عن مداره واخذ يدور بسرعة جنونية تقدر ٢٨ الف كم في الساعة حول كوكب الأرض ؛ تسعة مرات في اليوم ولا أحد يعلم متى يتوقف ويسقط؟ واين؟ وكيف ستكون نهايته؟ ألسنا بإزاء ظاهرة عالمية جديدة وصادمة للعقل والروح معًا؟!
تلك هي العولمة في أبهاء صورها الواقعية القاسية التي لم نحسب حسابها. العولمة ؛ هذه الظاهرة الكونية الجديدة هي وجه القرن الراهن لكن ما أقبح هذا الوجه، وما أشد تجهمه ورعبه؟ وإذا كان المعنى البسيط للعولمة هو العالم في متناول اليد كما عبر قبل ربع قرن المفكر الألماني هيدجر، بمعنى أن الكرة الأرضية كمجال حيوي وحيد لحياة الإنسان سوف تكون فضاءً مفتوحاً لجميع السكان القاطنين عليها، أي أنه بفعل ثورة الاتصالات وانتقال الصوت والصورة عبر موجات الأثير سيكون العالم مجال رؤية ومكان مكشوف للجميع، وهنا تتحطم كل الحواجز والحدود التي كانت في الماضي القريب تفصل بين القارات والشعوب والدول، اذ يمكن للناس أن يتبادلون التحية من طرف الأرض إلى طرفها مع إشراقة كل صباح، بل أنهم يستطيعون أن يتخاصمون ويتقاتلون ببساطة في أي وقت تماماً كما يحدث في القرية الصغيرة في أقصى الريف. وإذا كنا نحن العرب آخر من يعلم –كما هو الحال دائماً- آخر من يعلم بحكاية العولمة وقصة صعودها في بلاد الشمال، فإنه لابد لنا أن لا نندهش حينما نرى ما يجري حولنا من متغيرات وأحداث وظواهر جديدة وعاصفة يصعب علينا تفسيرها وملاحقتها، لكن ما يهمنا اليوم هو أن ندرك ماذا نحن فاعلون، ونحن نغوص في بركة آسنة وسط ملعب القرية الكونية وسوقها الشهير “الشرق الأوسط” هل بمقدور من يتمرغ بالوحل أن يرى اللاعبين فوق سفوح الجبال؟ لا يمكن له ذلك أبداً إلا في حالة واحدة وهي الخروج من ذلك الربق والتعود على السير فوق اليابسة تحت أشعة الشمس الحارقة، لكن هل ما نزال نمتلك خيار مثل هذا اليوم؟ لا أعرف بالتأكيد. فكل ما أعرفه أننا لم نفكر حتى الآن في إمكانية الخروج مما نحن فيه من بؤس وكل ما يجري اليوم في زقاقنا العربي المسمم بالعنف والبؤس والخوف والجريمة لا يحمل معه أي بشرى لتفتق بوادر هذا الوعي، فالجميع كجيوش النمل المجنونة التي تدور حول نفسها وتجري في كل اتجاه وتصطدم ببعضها بعد أن فقدت مسكنها الآمن أو باغتها التهديد فيه.
لقد صعقتنا العولمة بضربات مباغتة من العنف الموجه إلى بيتنا الهرم وعروشنا الهشة، فلم نعد نعيش في جحور آمنة سرية لا تسمح للضوء بالنفاذ إلى سراديبها، دول وشعوب منعزلة، رعويات مغلقة لا أحد يعلم ماذا يدور بداخلها، غير أن هذا الانكشاف للآخر هو أشبه بالفضيحة، لأنه جاء بمثابة اقتحام لحرمات ديارنا الآمنة دون الطرق على الباب، بل لقد خلع الباب ذاتة وانهدت السقوف فوق ساكنيها وافتضح أمر عرينا أمام الجيران من البيوت الأخرى وهذا هو ما جعلنا في وضع القابلين للفضيحة والمستعدين لدفع أي شيء مقابل الستر المؤقت، لكن لا يوجد هناك من يهمه أمر عرينا وسترنا غير أنفسنا، في هذه الحالة ينبغي علينا نحن الشعوب العربية أن نتحد في كتلة بشرية متراصة لكي نسترعوراتنا بأجساد بعضنا بعضاً، أما ذلك التمزق والتشرذم الحادث الآن كنتيجة للماضي، فسوف يعجل من سرعة انحدارنا إلى المستوى البيولوجي للحياة، حتى يصبح العري حالة مألوفة لنا وحكاماتنا التي تترنح اليوم بين قوى الهيمنة العالمية لم تجد حرجاً من السير في وسط المدينة العالمية المعولمة كالنعام ولكن بدون ريش أو ذيل يغطي الجسد، إن وضع حكومتنا العربية الآن هو أشبه بحال الفاقدين لعقولهم، أي أن وضعنا غير عقلانيا وعبثيا بامتياز ، وهذا معناه عدم إدراك المخاطر التي تهدد الجميع بلا استثناء، لم يشهد التاريخ حالة مفارقة كهذا ابدا، كل قوى الهيمنة العالمية اليوم جاءت تجرب اخر منتجاتها من الاسلحة المتطورة في بلاد العرب العاربة والمستعربة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين واسرائيل جميعها تضرب فينا وتدمر مقومات حياتنا منذ عقدين ونحن وحكامنا لازالوا في غيهم سادرون وسلام الله على الاستعمار القديم !
فرحنا بالتنين يؤنسنا فكشر سنونه وخوفنا
التعليقات مغلقة.