من كتاب مذكرات فنان “حكاياتي مع الوالد”
عبد الصاحب إبراهيم أميري
،،،،،،،،،،،،،،،.
حرص أبي علی أن یربيني تربیةً خاصّة. فكان یأخذني معه أینما یذهب من مراسم العزاء والمسجد فعرفت الحسین بن علي (الذي أستشهد في واقعة الطف) من خلال أبي.
حیث كان یلطخ رأسه وملابسه بالطین في یوم العاشر من محرم.. ذكری إستشهاد سید شباب أهل الجنة. ویسلك الطرقات في المراسیم حافیًا… ویبكي بحرقة للحسین بن علي علیه السلام… كما أنه كان یأخذني للمسجد عند صلاة الظهر، فتعلمت الصلاة من أبي… ومن الحاجة أم أحمد معلمتي في المكتب تعلمت القرآن علی یدها… فكانت عین أبي الساهرة عليَّ، كما أعلم أنّها سهرت علی أشقائي، فكان یأخذني معه للسوق في العطل والمناسبات، لیجعل مني رجلًا… حتّی إنه كان یسمح لي بالتعامل مع الزبائن وأنا ابن السادسة من عمري، كي أستطیع في الغد القریب من خوض مجالات الحیاة.. ولا شك إنَّ مشاهداتي في صغري… هي التي صنعت عجینتي… وهنا لابدّ من هذه النقلة!
في صباح إحدی الأیام.. كنت بمعیّة أبي في سوق الصیادلة (متجره) وهو یلبّي طلب زبون.
یبحث عن سترة (جاكته)، فبعد مماطلة انتخب ما یرید ووضع أبي(الجاكته) في كيسٍ سلمه للرجل.
– الرجل مادًا یده: أعطیني الباقي
أبي: – أي باقي ؟
الزبون: – أعطیتك خمسة دنانیر.. رد ليَّ الباقي
أبي: – أنت لم تعطني شیئًا…
الزبون: – خمسة دنانیر وضعتها في یدك
أبي: – أنا رأیت الدنانیر.. إلّا إنك لم تعطني شیئًا
الزبون: – أنت تتهمني… ؟
أبي: – أنا لا أتهم أحدًا.. إلّا أنّني لم أستلم منك شیئًا!
كنت أراقب الموقف بدقة.. ولم أتمكن من التدخل أو قول أيّ شيءٍ.. إلّا إنَّ حالة أبي أذهلتني..
أنا أعرف أبي، فهوصادق في قوله وهو لم يكذب قط! أین ذهبت الدنانیر ؟
عندها رفع الرجل صوته:
الزبون: – أنظر إلى صندوقك! ستجد الدنانیر فیها.
رمی أبي نظرة سریعة علی صندوقه وعاد بنظره للرجل:
أبي: – لیس في صندوقي مبلغٌ كهذا!
فاشتدّ غضب الرجل وصاح بأعلی صوته:
الزبون: – ألا تخجل من شیبتك.. أخذت مني الدنانیر وتنفي ذلك؟!
أبي: – أنا رأیتها في یدك….
الزبون: – إذن أین ذهبت.. ؟
أبي: – وما أدراني أبحث عنها في جیوبك !
ساعتها كنت أنوي أن أبحث في جیوب الرجل وأجد المبلغ.. فأن أبي كان قد أشتدَّ به الغضب
مدّ الرجل یده في جیوبه بحثًا عن المبلغ.. وأفرغ جیوبه وكانت خاویةً من كلّ شيء…. وكأن الدنانیر أختفت.. أنا الآخر كنت قد رأیت الدنانیر في ید الرجل.. فاصفرّ لون وجه أبي.. وقال بحدَّة:
أبي: – تعال معي للخان أفتّشك…
الزبون: – فتشنا معًا ولم نجد شیئًا
أبي: – أرید أن أفتشك تفتیشًا كاملًا
الزبون: – عجیبٌ أمرك… وإذا لم تجد شیئًا عندي؟
أبي: – سأدفع الباقي..
استسلم الرجل إلى قرار أبي.. وأتی إلى الخان.. طلب منه أبي أن یخلع ملابسه كلها.. استسلم الرجل وبدأ بخلع ملابسه.. فبانت عظامه من تحت جلدته السمراء الملتهبة من الشمس.
ما إن كان الرجل یخلع قطعة إلّا ویتفحصها أبي جیدًا.. فهو كان یعلم علم الیقین أنّ المبلغ مع الرجل، وأنا كذلك..
بقي الرجل بسرواله القصیر وجوربه، اشتدت حیرة أبي وفتش بیده حزام السروال وخابت أمانيه عندما لم یجد شیئًا.. وشعر أنه خسر الجولة.. عندها تفحّصت الرجل من فوق إلى تحت بعینٍ بصیرة.. حتی أنني اخترقت جلدته وبدأت أبحث بین عظامه.. حاول الرجل أن یبتسم لیغلبنا ومدّ یده لیتناول ملابسه ویرتدیها وكأن الأمر إنتهی، وكأننا خسرنا الجولة…
ولكن فجأة أبصرت عینیيَّ ظل الدنانیر من جورب الرجل فصحت فرحًا:
– إنّ الدنانیر في جورب الرجل
اتجهت أنظار أبي لجورب الرجل وارتسمت علی وجهه إبتسامة نصر….
أهتز الرجل وفقد السیطرة علی نفسه، بعد أن خسر الجولة بالضربة القاضیة.. فوجَّه إلیه أبي صفعةً قویّةً، أختلَّ بها توازنه وكاد أن یقع علی الأرض. وخطف ملابسه من علی الأرض وولّی هاربًا.. دون أن ینظر خلفه.
أنفتحت أساریر وجهي ورفعت صدري عالیًا وكأنني كسبت معركةً عظمی، وشعرت بأنني أصبحت رجلًا. . و
التعليقات مغلقة.