من مجموعةقصص تائهة. “آتٍ من الماضي”…

مرفت البربري

آتٍ من الماضي

كاد اليوم أن ينتهي، فمالت الشمس نحو الغياب، تضرب نورها بسياط من حرها فتسوقه إلى مكان آخر، ويتبعها الشفق الدامي باكيًا، يستحلفها البقاء، فلا ترد له جوابًا، لتُخرج العتمة من جوفها تاركة الليل يعيث ظلامًا.
وها أنا قد أكل النهار من ليل رأسي، فعاث البياض لعبًا بشرقها وغربها، يسير بي العمر إلى غروب ليقضي أمرًا كان مفعولاً، سمائي بلا ليل أو قمر، وليس لديّ ما ينير دربي، فقد انطفأت جذوة شموعي ووهنت قوتي، أعيش ظلام الغروب بعقل ذي ذاكرة تراثية لا أذكر سوى الماضي ولا أعيش إلا فيه، يتبعهما الوسواس فيعتريني الحذر من كل شيء، أخاف ممن يقولون إنهم الأقرب إليّ.
مررت قبل قليل بمقبرة لم أخف كما كنت أفعل، لم أشعر بالأشباح التي كانت تعشش في القصص التي عاشت فيها طفولتي، لم أتخيل الموتى يخرجون من أجداثهم ملتفين بالأكفان، تابعت السير منشرحًا، أحس بألفة بيني وبين سكانها، سمعت حديثا يدور بيننا، كان حديثًا صامتًا، أو ربما كان صدى لصوت حديث تم منذ سنوات معهم، فعاد من الماضي ليتردد في فضاء ذاكرتي الخالية.

سمعته ينهرني بشدة وينهاني عن الخروج من المنزل مع صديقي المقرب ويخبرني بأنه سيكون سببًا في ضياع مستقبلي وسيغضب عليّ إن لم أفعل، سمعتني أرد “لن أفعل” ولن أستمع، رأيته ممددًا أمامي وأنا أبكي أستسمحه وأطلب مغفرته ورضاه، سامحني يا أبي إني وجدت وعدك حقًا وقد خانني صديقي بعدما جعلني أوافق على شراكته لي في مشروع أنفقت عليه كل ما أملك وكان سببًا في إفلاسي.

لم يمض وقت كثير حتى توقف حديثنا، ثم رأيت ظلي يسير بصحبة صديقي قادمين إلى المقبرة يحدثانني، اقتربا مني فقال لي الظل: ها أنت تعود إلى نفس المكان كل يوم، ألا تريحنا من أفعالك أو تشفى من هذا المرض.
فنهرت ظلي، وقلت :
-لِمَ عُدت إلى صديق السوء؟ أما كفاك ما كان منه؟ أتريد أن تعُقّ أبي مرة أخرى؟