من هي ؟ قصة قصيرة بقلم مريم الراشدي -المملكة المغربية
تكرَّر على مسامع “جميلة” سباب والديها لبعضهما حين جمع أو حين خلوة. كانت كلمات أمها من الدعاء على الأب تدسّ في قلب هذه الجميلة خلقا وخلقا سمّا لا يقوى عل حمله بشر وكانت ردود أبيها عليها أثناء حضوره في نقاشاتهما العقيمة تصيبها ببعض الوهن صحيا وعاطفيا حتى لا تعود تميز إن كانت حقا تحبهما أم تود لو تختفي من ذاك الجحيم ذات جنح ليل. في كل مرة تطفو قذارة ما يسبان بعضهما به، تراودها نفسها عن نفسها :
ما هذه المصيبة يا رب ؟ إلى متى كُتب عليك يا جميلة هذا الضجيج بروحك ؟ ماذا لو استطعتِ النفاذ بجلدك من هذه الحفرة التي لا قعر لها ولا قرار ؟ متى ستأخذين القرار ؟ ماذا سيكون مصيرك ومصير أخويك التوأمين بعدك في هذا المستنقع إن أنت أقدمت على هذا ؟؟
ثم تراجع نفسها وتدعو لوالديها بالهداية، لعل بعد العسر في علاقتهما يسرا ومنجى للجميع.
وتوالت الأيام على ذاك النحو وأرعن ووصل من جميلة موصل الهم وصار السقم يتجول بين ثناياها … تفكر في نفسها مرة وفي أخويها ألف مرة.
مسكينان أنتما أخواي الصغيران. أدام الله عليكما منة قلة الانتباه لما يجري. أسأله تعالى أن تنعما بكل طيب.
لكنها في إحدى الليالي المشؤومة حين كان الجميع يغط في نوم عميق، استفاقت مذعورة على صراخ والديها، كان يصلها إلى مسمعها واضحا ولم يسمح لها بالغفو بعدها :
إني أكرهك يا امرأة منذ ليلة العمر وما وجدتك بكرا أيتها … !!
ولا أنا أعشقك أيها الوغد، أمقتك وأمقت أنفاسك الذليلة المذلة …
من يتبث لي أن جميلة منّي … ؟؟ من ؟؟ هيا !! انطقي ؟؟
الله يلعن من لا يحشم …
تراجعت بها الخطا في دوار إلى الوراء .. بعض الحرف لا زال يصل إليها، صفير داخلي أصمّ أذنيها وشلّ بدنها .. انهارت ..
أحست ببعض البرد بين ضلوعها، انتبهت، وجدت نفسها نائمة على الأرض بجانب سريرها. أخذت مكانها ودثرت نفسها بإزارها الأبيض القطني، متكومة كأنها في بطن أمها، لعلها تستدفئ فتنام.
لم تنتبه أمها ولا أبوها لعلامات العياء التي تعلو وجهها وعينيها. فلم تكترث بل وجدته جميلا ألا ينتبه أحد لما جرى. رحلة البحث عنها وعمّن هي ستكون في أمان من عين ثانية قد تبعثر أوراقها.
لكن من أين سأبدأ ؟! تساءلت في حيرة كبيرة، الأمر ليس بالهين البتة.
فكرت وفكرت مليا وبين مجريات حياتها مع الأهل والمدرسة كانت لها حياة أخرى بسرها وصارت تستجمع كل ما قيل عن خطبة أبويها وعرسهما وتاريخه سواء من أسئلتها المباشرة أو ما استنبطته ما جمل طائشة هنا وهناك علقت في ذاكرتها من شتائم والديها في أكثر من ظرف. أجمع كل من سألت أن عرسهما كان بفصل الشتاء، بعد وفاة خالتها الصغرى بقليل. ولكنها ما استطاعت الذهاب أبعد في الماضي من ذلك.
حاك القدر مرة أن تطلبت منها أمها أن تجلب لها صورة عن وثيقة طلقتها الأولى من أبيها. قررت أن تعطيها لأخيها في حال رفعها دعوة قضائية ضد الجاني عليها، كان الأب قد عنّفها حتى أراق دمها إثر جرح أصابها به في أنفها فما كان من الأخ إلا أن أخذها لبيته وتكفل بمصاريف تمريضها واستخرج لها شهادة طبية مدتها أربعين يوما.
جاشت روح جميلة،
سأجد حتما ما أبحث عنه منذ مدة، سأجد بتلك ما أبحث عنه.
حاولت قراءة الوثيقة ثم كررت القراءة لكن سدى. مكسورةَ الخاطر، لم تستطع فك شيفرة الخط العدلي بورقة الطلاق تلك ولم تستطع بالتالي الحصول على تاريخ الزفاف. مدت الوثيقة لأمها، وعاودت السؤال، فكان الجواب :
الله يسخط عليه هو واليوم الذي شفته فيه.
وفي نفس الظرفية، وبسبب التزاماته المهنية، طلب منها خالها أن تحضّر لأمها عقد ازدياد، فهو سيباشر بإجراءات الطلاق مرة أخرى بطلب من أخته.
كانت تلك الأمور كلها تتقاذف بروح جميلة والتفكير فيها يقود للجنون. صحتها في تراجع واضح غير أن الجميع يعزي ذلك لما تعانيه من ظروفها العائلية. لكن على صغر سنها، استطاعت ضبط نفسها وظروف أخويها الصغيرين في غياب الأم من جهة والأب في العمل من جهة أخرى. إلا أنها كانت تتشبث بشعلة الأمل الضعيفِة رغم ذلك.
أخذت دفتر الحالة المدنية لجدها لتستخرج عقد ازدياد أمها. استقلت الحافلة العمومية عند توجهها للمكتب المعني بالأمر وفي طريقها لقضاء الغرض، أخذت تتصفح الدفتر ورقة ورقة بدءا بورقة المعلومات العامة لجديها ثم ورقة جدها والتي تحمل صورته مارة بالمعلومات المرتبطة بوفاته ثم أوراق أخوالها وخالاتها فإذا بها على ورقة خالتها التي توفيت قبيل عرس والديها.
تاريخ وفاة خالتها يسبق ميلادها هي بما يناهز سبع أشهر … فقط !!
بين ذهول وخيبة أمل ورغبة شديدة في الصراخ وكتم الآه المدوية في أرجاء صدرها، انهمرت دموعها بشدة، حتى سألتها من تجلس بقربها، ما بها، فلم تجبها. كانت تود أن تنزل وتأخد الحافلة في الاتجاه المعاكس فتتقيأ كل ما تعرف حتى يستريح جوفها من عسرِ هضمِ سرِّها المختمر حموضة حد الطفح على السطح منذ سنوات. ثمّ لأمها في نفسها من حرارة الألم تمتمت :
من أبي يا أمي ؟؟ هل هو شخص آخر ؟؟ هل أنت بهذه القذارة ؟؟ هل أنا بنت حرام ؟؟ .. ودموعها لا تفتر تواصل،
انتظري يا جميلة، هذا الرجل -كما عرفته دائما- بدَوِيُّ الفكر والانتماء، فإن كانت أمي كذلك لكان فضحها فضيحة العمر !! لمَ سكت ؟؟ هل له ضلع في ما جرى ؟! ..
إذّاك، ألجمت لسانها عن الموضوع كله في سؤال آخر أكبر منه :
إذا لم يكن “أبي” أبي، فمن تراه أبي إذن ؟ أنا لا أستطيع استحدات طلب بحقيقة النسب ولا أستطيع أن أطلب ذلك حتى .. ماذا سأقول ؟ كيف سأفسر ؟ يا إلاهي .. يا رب !!
عادت أدراجها لبيت خالها دون أن تطلب عقد الازدياد من الجهة المعنية، بل ردت دفتر الحالة المدنية لخالها وقالت ووجهها مشحون بكاء وقهرا :
أرجوك خالي، لا تتابع إجراءات الطلاق .. من أجل أخوي الصغيرين .. سأطلب من (ذاك الذي لطالما اعتبرته) أبي أن يأتي ليطلب من أمي السماح فتعود للبيت.
بقي الخال في حيرة من الأمر وردّ بأن المسألة متعلقة بأمها واستطاعت في الأخير إقناعهما الاثنين وكذلك الأب بعد مرارة إقناع وتم الأمر كما طلبت.
أبقنت أنها، إن أميط اللثام عن بعض أمر من حياتها فلن تجني إلا الدم من الشوك الذي يحف بها وردةً لبيبة.
عاشت جميلة مع الأمر الواقع لسنوات عدة وتعايشت معه بل تجاهلته تماما أيام خطبتها وعلى مراحل الترتيبات لزواجها وما كان من “والديها” من خصومات شديدة الوطيس أثناء ذلك ومرارة البخل الذي صار عليه الأب من فرط حقده على الأم ومن فرط صراعهما حول من سيفرض السيطرة على الآخر.
وهي تستقبل مولودها الثالث، وبنبضة سحرية ما .. ما فهمَت لها من داع، رجعت بها الذاكرة إلى فتات حرف قيل ليلة سقوطها مغمى عليها :
الله ينعل من لا يحشم .. أنا الملامة .. أؤدي .. ثقتي .. أختي .. المستشفى ..
التعليقات مغلقة.