“ندبة”
خالد العجماوي
تعاني زوجتي من خلل جيني نادر. إنها لا تشيخ أبدا. هي لا تدري بالتحديد في أي عام ولدت، ولكنها تحوز أوراقا ثبوتية تدل على أنها ربما عاصرت نابليون.
لا يعرف الأطباء حالة زوجتي شهيرة..قال لي أحدهم إن خلايانا مبرمجة على الموت، و أن الخلية فينا تأكل نفسها كل يوم يمر إلى أن تموت. يبدو أن عطبا ما أصاب هذا الجهاز عندها، حتى إنها لتبدو امرأة في العشرين، بينما عمرها مائتي عام أو يزيد. سألتها عن ترتيبي بين أزواجها. قالت السابع ربما..أو الثامن..في الحقيقة لم أكن مهتما بمعرفة ترتيبي حين زواجنا منذ أربعين عاما.. ولكني صرت مهتما الآن بمعرفة مكاني في حياتها. صرت أدقق. أقول في ضجر:
- ركزي..السابع أم الثامن؟
- وما الذي يهم؟
أهش بيدي وأتمتم: - غبية!
تمتص غضبي الفجائي وهي تبتسم: - غبية لأني معك.
زوجتي حكيمة. ليس غريبا فما عاشته من سنين طويلة لابد يمنحها الحكمة في كثير من أمور حياتها، كما أرى أن زيجاتها الكثيرة قد عرّفتها كيف تعامل رجل صعيدي مثلي. لا أعيش في قريتي ولا في الصعيد كله، وإلا كيف كنت أقترن بشهيرة الفتاة التي لا تشيخ؟ في قريتنا تسري الإشاعات كما الكهرباء في الأسلاك؛ سيقول الجهلاء جنية، أو ربما تتمخض أفكار المتعلمين منهم فيقول صناعة روسية أو أمريكية، حضرت كي تتجسس على قريتنا السعيدة!
تعرفت عليها في القاهرة حيث كنت أعمل وأنا في الثالثة والعشرين. امرأة تقطن شارع شريف، ومتزوجة من رجل عجوز جاوز السبعين، تطلب كهربائيا كي يصلح لها المروحة. كم كنت محظوظا!
تسري الإشاعات في وسط البلد كذلك، ولكنها سرعان ما تذوب وسط زحام السيارات وسعال المارين. لما أسررت للمعي البقال في عمارتها بالدور الأرضي برغبتي في السيدة شهيرة بعد أن مات العجوز وصارت أرملة حذرني. قال إنها فأل شؤم. خفض صوته وأردف بعينين لامعتين: - كل من يتزوجها يموت..وتبقى هي شابة لا تشيخ!
- أتصدق هذه الترهات؟
- صدق أو لا يا صعيدي..ولكني لمحت عندها في الصالة صورة من أيام زوجها الباشا فؤاد، ومكتوب عليها سنة ١٨٩٨..
لم تكذب عليّ شهيرة. نعم قالت إنها لعنتها. كل أقربائها ماتوا من سنين..لم يبق إلا هي..لا تذكر متى ولدت. لما صارت في الأربعين لاحظت أن أخواتها يعانون من تجاعيد. تحت العين، وتحت الأنف..أما هي لا..لما وصلت إلى الستين ماتت أختها الكبيرة، لكن بشرتها هي ظلت وردية، جميلة، وشعرها ظل أسود كالفحم..طويلا ومنسدلا كالنيل فوق جبهة طرية.
بقيت شهيرة على شكلها كل هذه السنين، تتزوج، ثم تصبح أرملة، ثم تتزوج من جديد، وهي تعرف أن مصيرها أن تصير أرملة مجددا..ندبة صغيرة هي ما كانت تسترعي انتباهي. ندبة فوق شفتها العليا. من أين جاءت؟ امرأة لا تعرف العجز كيف لندبة أن تعرف لها سبيلا فوق الشفة؟
خطر لي أنها قبلة طويلة من أحد أزواجها السابقين..قبلة عميقة، مملوءة بالرغبة، حتى استحالت إلى عضة شهوانية أسالت منها الدم. شهيرة امرأة حلوة. كم أغرت من رجال..لم تنجب أيّ مرة، ولكن جمالها الطاغي كان يشفع لها في نظر كل رجل. من تراه فعلها وترك فوق شفتها هذه الندبة؟
لما سألتها قالت دون اكتراث: - لا أذكر..
أشعلت سيجارتي بيدين معروقتين تليقان بسنيِّ الستين. ربما تكذب شهيرة هذه المرة..وكأنها تؤكد لي أنها بالفعل كانت قبلة حارة من أحدهم. من يكون؟ تصوري يا شهيرة إنك لم تكلميني عن أي من أزواجك السابقين. قررت أن أبحث في أوراقها القديمة. حقيبة صغيرة موضوعة وراء المرآة..هي لا تخبئها. فتحت صندوقا داخل حقيبتها تلك. لم تضع رقما سريا..ليست لئيمة!
في أوراقها وجدت صورة مهترئة. شهيرة بنفس شكلها وبجانبها رجل أشقر وسيم..كتبت تحتها: أنا وزوجي بول..
تحتها صورة أخرى..صفراء..خواجة بقبعة سوداء وشهيرة تستند على كتفه. كتبت: زوجي مستر موريس..
يا إلهي! بينهما مائة عام يا شهيرة!
امتدت يدي إلى أوراق أخرى.. ثمة خطابات قديمة..من بول إلى حبيبتي شهيرة..من شهيرة إلى حبيبي موريس..وجدت صورة أخرى. رجل أفندي، بطربوش، كتبت: أنا وزوجي الباشا فؤاد ..
ابتلعت ريقي بصعوبة. وكأنني لم أدرك مأساة شهيرة سوى الآن..أن تعيش كل هذه السنين حلم ربما يراود الكثيرين، ولكنه إن حدث كما عند شهيرة فإنه لا بد يصبح كابوسا.
لا تخونني شهيرة. هي مخلصة، وعشرتي معها تؤكد حدسي..كما أنها لم تخن بول، أو موريس، أو فؤاد..
ولكن من تراه ترك فوق شفتها هذه الندبة؟
خطر لي أن أصنع أنا ندبتي فوق شفتها العليا من الجهة الأخرى. أن أترك فيها أثري الخاص الذي يتحدى الزمن. فتوقدت مشاعري. سنيّ الستون لن تكون عقبة كي تعيق جموح رجولتي الثائرة..صدقيني يا شهيرة فإن جمالك الذي لا يذبل يجدد عند رجولتي نشاطها ورغبتها..
ذهبت إلى المطبخ، وجدتها تطبخ غداءنا. - شهيرة!
التفتت، فألصقت شفتي في شفتيها..بدت راغبة. جعلتها عميقة وساخنة. ظللنا على التصاقنا، وشفتانا تغليان. وضعت شفتها تحت أسناني وخصرها بين يدي. عضضتها فتأوهت، وإن بدت مستسلمة. ضغطت وقد فارت في اللذة، وأحسست طعم الدم، وقد سال كالخيط من فمها الذي التصق بفمي، وخصرها يرتعش.
تركتها، وشعرت وكأنني قد انسحبت فجأة من كوكب عال كي أهبط إلى الأرض.
في اليوم التالي استيقظت باكرا، تحممت، وصففت شعري الأشيب، وذهبت كي أشتري باقة من الفل والورد كي تسامحني عما فعلته بالأمس. ابتسمت شهيرة وهي تلتقط الباقة من يدي. لم يكن ثمة أي أثر. فقط ندبتها القديمة فوق شفتها العليا. لم أفهم. هل كانت قبلته أعمق من قبلتي؟ هل كانت أكثر حرارة وشبقا؟
أصابتني لوثة غضب. تركتها وذهبت..قررت أن أتخلص من أوراقها القديمة كلها في تلك الحقيبة خلف المرآة. حملتها وألقيتها فوق الطاولة. صرخت وأنا أشعل عود ثقاب وأحرق كل الأوراق. أطفأت الأنوار لأرى ألسنة النار تتراقص كصلاة الأزمنة الغابرة. لم تغضب شهيرة. وقفت ورائي وهي تبتسم ناظرة. انكمشت الأوراق والصور تحت لهيب النار، واستدرت خلفي لأجد شهيرة وقد تراقصت خيالات النار على صفحة وجهها، وفوق شفتها ظهرت أخيرا ندبتي!
التعليقات مغلقة.