نزهة أخيرة …
بقلم فادية حسون
نزهة أخيرة ..
قصة قصيرة..
بسرعةِ البرق لملمَ أسمالَها في كيسٍ أسودَ وعلّقه في ذراعِ كرسيها المتحرك .. وفي الذراعِ الآخر علّق كيسَ الأدوية… وانطلق بها ولسانُها يلهجُ بدعواتها له ولأولادِه وزوجته..
لم تكن تعلمُ وجهةَ سيرها.. لكنها توسّمت خيرا وقد اعتقدت أن ابنَها الوحيد أحبّ أن يُخرجَها من جوّ المنزل كي تستنشقَ هواءً نظيفًا .. كانت شمس الأصيل تودع القرية وتترك انطباعات ذيولها الحمراء على النوافذ الزجاجية ، وبعض نسمات المساء الرقيقة بدأت تداعبُ وشاحَ رأسِها بلطف لم تذق طعمه منذ مدة طويلة، فتطرد قيظَ تموز الذي ألهبَ جسدها الكليل… ثمة شعور غريب اعتلا صدرها الذي بدأ يصارعه حسنُ الظن بضراوة ، فيطرد بعضَ الوساوس الخبيثة التي بدأت تشاكسُ قلبَ أمّ لم يعتد إلا على الرضا والاطمئنان … وبدأت الأفكار في رأسها تمارسُ صراعا كاد يفتك بكيانها ..
— إلى أين يذهبُ بي ولدي في هذا الوقت؟؟؟
لكن لابأس بنزهةٍ قريبة ، فمنذُ أعوامٍ عديدة لم أرَ ملامحَ قريتي التي اشتقتُ إليها كثيرا.. فقد سئمت السرير الذي لم أفارقه منذ عدة أعوام..
وبيديها المهتزتين عجزًا وإعياءً تشبّثت الحاجّة أمينة جيدا بكرسيها ذي العجلات خشية أن تسقط أرضا .. لأن ابنها الذي يقود كرسيها كان يحثّ الخُطا متذمّرا وهي لا تعرف السبب.. كانت تراقب أوردتَها البارزةَ وتجاعيدَ يديها التي حفرتها سنون التعب والشقاء ..
— لكن إلى أين؟؟
هذا الطريق أسلكه لأول مرة ، وهو لايشبهُ الطريق الى الكروم.. ولايشبه أيضا الطريق الى بيت ابنتي خديجة.. لعله سيأخذني إلى حديقة تم إنشاؤها حديثا في القرية.. !!
نعم.. سمعت أحفادي يتحدثون عنها منذ عدة أيام حين اصطحبتهم أمهم إليها وقد عادوا مبتهجين .. لابد أن ابني ( وليد) قد قرأ رسالة الرغبة في وجهي حين رأيت فرحة أبنائه برحلتهم وأراد أن يذيقني بعضا من لذة عمري المتبقي.. رضي الله عنك يا وليد .. لم يضع تعبي سدى ..
كان وليد يزيد من سرعة دفعه للكرسي وكأنه متأخرٌ عن موعد ما.. بينما بدأت ملامح الأشياء تختفي تدريجيا بسبب حلول الظلام..
— سامحك الله يابني ليس هذا بوقت النزهة فأنا بالكاد أرى الأشياء في وضح النهار ، فكيف سأستمتع في هذه النزهة المعتمة..؟! لكن لابأس، المهم أنني استنشق هواء نقيًّا.. بعيدًا عن جو البيت الخانق..
ظل وليدٌ صامتًا، ينوبُ عنه لهاثُه المتواصل ..
— لكن الطريق قد طال كثيرا، وقطعنا مسافةً طويلة .. وبدأنا نسلكُ طريقَنا صعودًا باتجاه التلة في آخر القرية… ولهاثُ وليدٍ يتصاعد شيئا فشيئا..
— عُد بي مجددا إلى البيت يابني … يكفي هذا اليوم، فإنني أشفق عليك من هذا العناء.. ولهاثك يقهرني..دعنا نعُدْ أرجوك، فإنني لاأطيق الابتعاد كثيرا عن أبنائك أحباب قلبي..
لم ينبس وليدٌ ببنت شفة ، لكنه واصل دفعه للكرسي بقوة استنفذت ماء جسده حتى بدا مبلّلا من فرط التعرّق ..
— حسنًا… أظن أنه يأخذني إلى ذاك المبنى الكبير في القمة والذي يبدو كالمقصف البهي بأضوائه الملونة..
ياالله ياوليد كم كنت أشتهي أن أرتاد مثل هذا المكان قبل أن يموت أبوك رحمه الله.. وأخيرا تحقق حلمي وإن كان متأخرا قليلا ..لكن لابأس ..
اقترب وليد من البوابة الكبيرة..
رفعت أمه رأسها مزهوّة بابنها الذي جاء بها إلى هنا.. وبينما كانت ترفع رأسها و كفيها إلى السماء استعدادا لإغراقه بدعواتها الغزيرة.. لمحت عبارة مكتوبة فوق البوابة.. استعانت بما علق في ذاكرتها الرثّة من حروف كانت قد تعلّمتها في دار الكتّاب في صغرها، وبدأت تهجّئ الحروف بتلعثمٍ تصحبه رعشةٌ عنيفة تشبه زلزالا مدمّرا .. تماما كمن يقرأ نبأ إعدامه :
د..ا..ر..
ال.. م..س..نّ..ي..ن
((ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا)) .
فادية حسون…
14/7/2022
التعليقات مغلقة.