“نسيج مصري” بقلم .. د. إبراهيم مصري النهر
دخلت عليَّ اليوم غرفة الكشف سيدة يبدو من ملامح وجهها أنها في أوائل الخمسينيات من عمرها، خالطت بعض خصلات الشيب شعرها الأسود المعقوف خلف رأسها على هيئة كعكة، ترتدي عباية سوداء قصيرة تغطي حتى منتصف ساقيها، بصحبتها سيدة عجوز يفوح منها عطر السنين، بيدها محجن تتعكز عليه، وتحيط عنقها ورأسها بوشاح أبيض.. أمسكَت بيدها السيدة التي برفقتها وأجلسَتْها على الكرسي المقابل لمكتبي لآخذ منها تاريخها المرضي، وكانت هذه السيدة تجيب عن أسئلتي بالإنابة عن السيدة العجوز وكأنها تعيش معها في نفس الغرفة، حتى الشكوى كانت تصفها لي كما لو كانت هي التي تحسها وتشعر بها، وتعرف أسماء الأدوية التي تتعاطاها لعلاج الأمراض المزمنة التي تعاني منها، بما يشعرك أنها أختها الصغيرة أو ابنتها البكر التي تلازمها ليل نهار، أو في أضعف الإيمان تكون إحدى ذويها المقربات، هكذا خمَّنت.. ثم ساعدَتها بعد ذلك على خلع حذائها والاسترخاء على سرير الكشف.. وأنا أتابع عن كثب ذراعها لألمح رسغها الأيمن -لحاجة بنفسي- حتى وقعت عيناي على وشم الصليب..
وبذلك تأكد شكي مما يشي به سمتها من أنها مسيحية، ولكن هناك “إنَّ“ في الأمر؛ السيدة العجوز يبدو عليها سمت المسلمين، واسمها (سميرة)، اسم تتسمى به المسلمات والمسيحيات على حد سواء..
أتساءل، بعدما تداخلت السلوك: إن كانت حقا مسلمة فما الذي لمَّ الشامي على المغربي، كما يقولون؟!
ومططت شفتي السفلى وقلبتها للخارج استغرابا !
وأثناء قياسي لضغط دمها، لاحظت أن رسغها خال من وشم الصليب.. مسلمة إذن !.. وازداد اللغز غرابة بالنسبة لي !
وبينما أنا ما زلت مندهشا..
بادرتني السيدة المسيحية، قائلة: أنا أم مينا، الذي لولاك لفتكت به كورونا، ألا تتذكرني؟
أجبتها على الفور: بلى، بلى.
وأردفَت: دخلت على جارتي أم محمد، لأعد لها طعام الإفطار كعادتي كل يوم، وأعطيها دواء السكر والضغط وحساسية الصدر؛ وجدتها مطروحة على أرضية الغرفة بجوار السرير، وشفتاها وأظافرها زرقاء وتتنفس بصعوبة بالغة؛ عدوت نحو جهاز النيلوليزر وأعددت لها جلسة استنشاق في لمح البصر.. بعدها مباشرة استعادت وعيها، وتناولت طعامها وباقي علاجها، ثم اصطحبتها في المجيء إليك…
أجبتها: حسنا، اطرحي كل هذا جانبا الآن وأخبريني، كيف دخلتي عليها بيتها؟!
قالت: معي نسخة من المفتاح !
عقَّبتُ: يا له من نسيج قوي، نسيج المجتمع المصري !
التعليقات مغلقة.