نص مقدمة المجموعة القصصية “العلامة السوداء ” للكاتب هاني موسى
رحلة هذا العمل قبل وصوله مكتبي
كان مما حثَّني على الإقبال على هذه المجموعة القصصية التي تمثِّـل باكورة أعمال الأديب الأستاذ هاني موسى أنَّ هذا العمل حينما وصلني دفعته إلى الشاعـر المتذوِّق الأستاذ عبد الناصر الكومي طالبًا منه أنْ يقرأه قراءةً متأنيةً ثمَّ يخبرني برأيه فما كان منه إلاّ أنْ قامَ بتدقيقه ثمَّ أرسله مُردِفًا إيــَّاه برسالةِ ثناءٍ على هذه المجموعة، ولأنني بطبيعتي شخصٌ لا يثق إلاَّ في نـفسه ، وعلى أنـِّي لا أشكُّ في الآخرين من أصفيائي ومن هم معي بالعمل غير أنَّ هواجس الارتياب دائمًـا ما تـدفعني إلى توقُّع إمكانية حدوث الخطإ ووقوعه لعلَّةٍ بغيضةٍ يُسمُّونها إحسان الظنِّ = والـخوف من إحسان الظنِّ هُنا قـد يأتي عقبَ قراءة الأستاذ عبد الناصر لقصة أو قصتين فإذا ما راقـه الأمـر أعطى حكمًا عامًّا على العمل ككُلٍّ متكاملٍ؛ بينما عوَّدتني طبيعة العمل القديم الذي مارستــه سبع سنوات أنَّ قولـهم : لكلِّ قاعدةٍ شذوذها ، يصدقُ في التجـربة التي تخـرج من قلم المؤلف المتـقن كصدق هذا القول على أكثر الأشياء التصاقًا بالمقولة ؛ غير أنَّ صاحبنا أكَّـد لي أنـه قـرأ العمل قصَّةً قصَّةً وحرفـًا حرفـًا، وأنَّ هذا سيكون من الأعمـال الناجحة إن شاء الله تعالى ، فلمَّـا سألته : أيّ قصَّـةٍ أذهبُ لقراءتها لأكتب عنها كلمةً تصلح أنْ تكون تقريظًا في صدر الكتاب لكون الـمـؤلف قـد أعرض عن غيرنـا وأبـَى إلاَّ أنْ أُقــدِّم له ؟ ؛ فقال : عليك بـ (( العلامة السَّوداء )) .
ولأني في النهاية إنسانٌ مريضٌ بالشَّكِّ ، ولا تـجـدُ شكِّي أشدّ ما يكون كما تجـده في ثلاثة أمـور ... شكِّي في المرأة ، وشكِّي في غيري حين يناط الأمر بإدارة مالٍ ، وشكِّي حين أُمارسُ العلم والكـتـابة في سقوط حرفٍ أو عدم استقامة عبارةٍ = ولذا فقد أرسلتُ الكتاب من بعد أنْ قرأه وراجعه الشاعر القدير عبد الناصر الكومي إلى الأخ الفاضل الأستاذ عبد الله أحمد ، وهو شابٌّ درعميٌّ يُحبُّ عمله ، وطلبتُ منه أنْ يقـرأ هذا الكتاب قراءةً جديدةً وأنْ يـُخبرني بدرجة كلِّ قصَّةٍ ومبلغها من الإتقان لُغةً وقصًّا ، فعكف علىه أسبوعًا أو أكثر ، ثمَّ أرسله لي ، فلمَّـا سألته عن القصص التي يـجبُ أن تكون موضعًا للـتـقـريظ ؛ قال : عليك بالأولى والثانية والعلامة السَّوداء .
فلمَّا كان ذلك كذلك ؛ رأيتُ أنْ أجمع بين الرأيين من دون أنْ أترك لنفسي المجال فإذا بقلمي قـد نهشَ من أوراق الـمـؤلف عشر صفحات أو أكـثـر ، وقُـلتُ : إِذن عليك بالأولى والثانية ولتجعل العلامة السَّوداء في ترجمة هاني موسى التي سأجعلها
بكتابي (( الثقافة العربية المعاصرة في تراجم شعرائها وسير أدبائها )) .
القص والعقدة بين التوحد والتركيب
(( أصل وصورة )) .. قصَّـةٌ قصيرةٌ لا تتجاوز أربع صفحات من القطع الصغير بحيث أنك تـقدر على تأمُّـلها في ستِّ دقائق ، وهي قصَّة غير مركبة إِذا ما نظرنـا لمفهوم القصة المركَّبة على أنـه الولوج إلى عقدةٍ والخروج إلى أُخرى والوقوف أمام مصادمة ثالثة ؛ ومهما يكُن من أمـرٍ فـإنَّ إجادة الكاتب في هذه القصَّـة تتلخَّص حين نقابل بين عدد أسطرها وقدرتـه على صناعة العُـقـدة الدرامية وإيـجـاد حلٍّ لـها فـي سهولةٍ ، وإنْ كانت هذه السُّهولة تحتاج إلى نقاشٍ حضاريٍّ ليس هذا موضعه .
بلا مأوى ... قضية أخلاق ما تزال قائمة
دعني أُمازحك لأقول لك إنني قـد وقفتُ على سرِّ الخادمة منذ اللحظة الأولى ، لكـنِّي أثـق أنَّ الـجمهور لن يصل إلى ذلك بهذه السُّرعة ؛ لأنهم حين قراءة قصَّتك فهم يضعون أيديهم في الـماء ، أمَّا نحنُ معشر الأدباء الـمتحـققين فأجسادنـا في هذه النيران قبل أيدينا ؛ ولذا فقد يأسى القارىء ويأسفُ حين ينزِّل مضمون القصَّة على الواقع ، أمَّا نحـن فغايتـنا أنْ نضحك ثم نضحك ؛ ولكنـه ضحكٌ كالبُـــكا ...
أتدري يا صديقي أنني وقفتُ على قصَّـةٍ لكاتبٍ يـُحـاربُ هذه الظاهرة ؛ غير أنَّ الـمُضحك أنَّ القصَّة في نـفسها تستوجب حـربـًا على الكاتب لذات العلَّة التي نـاقشتـها أنتَ في (( بلا مأوى )) ! ...
في نهاية الأمـر لا بـُدَّ أنْ أقـول لك : الظاهـرة التي عـالـجتها القصَّـة ربمـا كانت الأخطر في عالـمنا الثقافي الراهن ، وكونك كنتَ مِن فرسان ( الرفض ) من خلال قصَّـة ( بلا مأوى ) فربمـا كان لك الأجر المضاعف حينمـا يـخـرج كاتبٌ آخر ليدافع ويهاجم ، سواء أكان ذلك بالقصِّ أو بغيره من فنون التدبيج .
وبعد
أثـق أنَّ هذه الـمجموعة (( العلامة السَّوداء )) هي ميلادٌ حـقيقيٌّ لقصَّاصٍ يرومُ موضعًا قمينًا بالــتـقدير بين أهل هذا الفـنّ .
….
وكتب
محمد محمود دحروج
التعليقات مغلقة.