نظرة بقلم مرڤت البربري
بعد محاولات للعلاج المنزلي، وسهر حوالي إثنى عشر يوما تحت قدميها العجفاوين، ساءت حالة أمي ذات النيف وثمانون عاما، أنا وليدها الصغير، من بقيَّ بجانبها بعد أن تزوج إخوتي وأخواتي، وبعد أن مات والدي منذ عامين، كنت لها كل شئ ، وكانت عالمي، أرعاها وترعاني حتى أصابها الوباء، تركت عملي والدنيا وسكنت موطئ قدميها، ولكنني عجزت أن أعينها على الانتصار على مرضها، استدعيت الإسعاف فأخذوها للعزل، بعد أن أصابها الوباء بأعراض لا يمكن ، مجابهتها بالأدوية العادية، حملوها ممددة لا تستطيع حراكا ،بينما أنفاسها تتلاحق، وصدرها محاولا ضم أنفاسها يصعد يلتقط نفسا ولا يلبث ينزل ليزفره بسرعة ليستطيع الإمساك بشهقة أخرى، صعدت وحدها سيارة الإسعاف ومنعوني أن أرافقها، أسرعت بجلب سيارة أجرة وحاولت وسائقها متابعة عجلات الإسعاف التي تطعن الأسفلت بخطواتها، وتملأ الجو بنفيرها صراخا، وقفت على باب المشفى، لا تطاوعني قدماي لأعود إلى بيتي، حاولت أن أعرف مكان حجرتها فلم يسقي عطش لهفتي أحد، حتى حنت لدموعي عاملة النظافة التي رأتني لا أبرح باب المشفي، فقالت لي : أنا أعرف مكان حجرة العناية الفائقة.
تهللت ومسحت دموعي، وقلت لها :سأمنحك ما تريدين إن أنت أخبرتني أي تلك النوافذ هي نافذة حجرتها، قالت: سأصعد وأطل عليك منها وحينها ستعرفه، فأنا يا بني لا أعرفه من هنا، ولا أريد منك شيئًا إلا أن تدعُ لي أن يحبني إبني كحبك لأمك.
دعوت لها وقلت : والله سأدعو لك كل صلاة أن يحبك ويبرُّك.. ولكن كوني له كأمي، ليكن لك مثلما أنا لها..فأمي من علمتني البر ومراقبة الله في كل ما أعمله، هي الحب والحنان والقدوة.
أطلت من نافذة الحجرة فعلمت ان ههنا ثمَ روحي ترقد، تسلقت الجدران حتى تمكنت من الجلوس على مصطبة النافذة، ورأيت أمي أخيرا بعد مرور يوم كامل لم تبصر عيناي فيه إلا دموعي، جلست هناك أراقب الأجهزة التي أوصلوها بجسدها لتمنحها ما يساعد جسدها على مقاومة الوباء، كنت لا أفارق النافذة إلا في مواقيت الصلاة أصلي فروضي وأمنح جسدي بعض دقائق من الراحة لأعود إلى نافذتها مستندا على كتف ألواحها التي ترفقت بي ومنحتني من خلفها نظرات أمي الراقدة، كان الأطباء والعاملين بالمشفى يرقون لحالي، فما منعني أحد من تلك الرفقة الافتراضية عبر النافذة، وكان منهم من يمنحني كسرة خبز أسد بها رمقي، وما كنت في حاجة لها وأمي لا تقاسمني مذاقها، إلا أنني ما كنت أريد أن أرفض مودتهم، فكنت أتقبلها شاكرا لهم صنيعهم معي، مر أسبوع ، وأنا أرافقها عبر النافذة، أمدها بدفقات من أنفاسي مع الهواء ربما تمنحها حياة، وألقِمها دعواتي ، ومن عيني أرسل حناني يغطي جسدها الرقيق، ولكنه لفرط رقته لم يتحمل المرض، ففارق الحياة جسد على كل البلاء كان صابرا، أرادت أمي أن تريح جسدي من تعلقي بالنافذة، ولكنها لا تعلم أن روحي مازالت هناك تزفر وتشهق وجعًا.
التعليقات مغلقة.