نهايةُ يومٍ شاقّ قصة قصيرة بقلم الأستاذة / فادية حسون
نهايةُ يومٍ شاقّ قصة قصيرة بقلم الأستاذة / فادية حسون
بعد توقّفٍ دامَ قرابةَ الساعة عند موقف الباص.. تنفّسَ سعيدٌ الصّعداء حين لاح له الباصُ المنتظرُ آتيًا من بين جموع السيّارات التي ازداد تدفّقُها عند المغيب معلنةً إيابَ الخلائقِ إلى بيوتها بعد عناء يومٍ شاقّ طويل … بصعوبةٍ استطاع سعيدٌ وضعَ قدميه على أرض الباص المكتظّ بروائح الشّقاء الإنساني… بيدِه اليمنى حاول التشبّثَ بسقف الباص.. ووضع يسراه في جيب بنطاله خشية أن تتسللَّ يدٌ رعناء فتسرق حصيلةَ عرقِه طوالَ اليوم… كان الباصُ يغصّ بخليطٍ من البشر رُسمت قصصُهم المختلفةُ على محياهم.. استطاعَ دون فراسةٍ أن يميّزَ بين أقرانه السوريين و الأتراك.. فملامحُ وجوههم تروي حكايات وحكايات عن الكفاح اللامتناهي لتأمين لقيمات العيشِ لأُسرِهم .. كلهم كبروا قبل أوانهم وغزا الشيبُ رؤوسَهم كزيارةٍ مفاجِئةٍ لضيفٍ ثقيلٍ دون موعد مسبق .. لفت انتباهَه منظرُ ذاك الرجلِ الخمسيني الذي استقلّ مقعدا فرديًا وكأنه يفرّ من غِلظةِ الحياة وازدحامها .. كان الرجل منهمكًا بلفّ سيكارته استعدادًا لتدخينها حال نزوله من الباص.. كان مقطّبَ الحاجبين وهو يحاول إلصاقَ حوافّ سيكارته بلسانه ثم يطرد بقايا الورق من فمه بطريقة تحملُ النزقَ والامتعاض… لابدّ أنه مثلي مثقلٌ بأعباء الحياة ومشاكل العائلة في هذه المدينة المتخمةِ بالبائسين … هكذا حدّث سعيدٌ نفسَه..
عند كل توقّف للباص كان الأملُ في الجلوسِ يتزايدُ عند سعيدٍ الذي تكاد قوّتُه تخورُ تعبًا وإرهاقّا … نزلَ ذاك الرجلُ الخمسيني في أحدِ المواقفِ فهرعَ سعيدٌ إلى مكانه كمن حصل على جائزةٍ عالمية كبرى …. لم يعبأ بذاك الكم من التبغ المتراكم فوق الكرسي الذي أسقطته يدا ذاك الرجل المرتجفتان.. كان سعيدٌ يمقتُ إنسانيتَه أحيانّا لأنها تُوقِعه في مطبّات التفكيرِ بأحوال التعساء.. ففي بلاد اللّجوء والاغتراب تلاشت سعادة السّوريين في أعمال البناء والإنشاءات التي حوّلت أكفّ الرجال إلى قطعٍ خشبيةٍ منزوعةِ الحياة.. . وفي حقول الليمون التي خرّشت أشواكُها سواعدَ المضطرّين للعمل في حضرةِ الأفواهِ الفاغرةِ جوعّا وخصاصة.. كان من بعيدٍ يسترقُ النظرَ إلى ذاك الرجل التركي الذي ارتسمت ملامحُ الثّراء على محيّاه.. كان مُغمضَ العينين مستلقيّا مع ابتسامةِ ارتياحٍ تسكن بوابة ثغره.. بينما تستقرُّ في أذنيه سماعتان أنيقتان موصولتان بهاتف باهظ الثمن …. أخرجَ سعيد هاتفَه من جيبه.. حدّق فيه بحسرة.. . سوّلت له أفكارُه أن يشجّ به رأس الفقر المتجسّد أمامه في زفرات السوريين البائسين الذين يرافقونه يوميا في رحلات شقائه … تفحّص سعيدٌ كفّيه وكأنه يراهما لأول مرة.. راعه منظرُ التشقّقات والانتباجات والنتوءات التي تروي قصةَ حملِه لصفائحِ الإسمنتِ والصعود بها عددًا من الطوابق…تمهيدًا لإنشاء سقفٍ يكون مراحًا ومُستراحًا لإحدى العائلات الثرية.. فالسّوريون هنا لا يستطيعون استئجارَ بيتٍ باهظ الإيجار..إلا من جاء حاملا إرثا عظيما من أبيه.. ضحكَ في نفسه ضحكةَ ازدراءٍ حين تصوّر لو أنّه صافح ذاك الرجل بيمناه فسوف يُحدثُ خدوشا وجروحًا في يده الناعمة.. حصرَ رأسه بين راحتيه المضطهدتين.. وأخذ يفكر بالامس البعيد.. حيث كان يعملُ مدرّسًا للغة العربية في إحدى المدارس في سوريا.. يذكر أنه لم يعشْ حياةَ الخشونة مطلقًا وأن كفّيه ما اعتادتا إلا على القلم والطباشير والكراسات … زفرَ زفرةً عميقةً وهو يحاولُ استحضارَ صورِ طلّابه الذين كانت تربطه بهم علاقاتُ المودّة والإخاء… ترى ماذا حلّ بهم.. هل تابعوا تحصيلهم العلمي.. أم أن الحربَ لاكت أحلامَهم بأنيابها الرعناء ولفظتهم إلى أعمال البناء كأستاذهم الذي أرهقته بناتُ الدهر حدّ الإعياء… وصلَ سعيد إلى الموقف القريب من منزله… ترجّل بتعبٍ مع أنةٍ مثقلةٍ بالآهات… مشى بصعوبة وكأنه لأول مرة يستخدم قدميه.. ارتدى سترته التي جلبها معه خصيصًا تحسّبًا لبرد المساء .. كعادته اقترب من دكان العم (حقّان ) ليشتري بعض أكياس الشيبس الرخيصة لولديه اللذين يسيلُ لعابُهما باللاشعور عند اقترابِ المساء … وكعادته حين يقترب من منزلهِ يقرعُ الباب طابعًا على وجهه ابتسامتَه التي اعتاد أن يجاهدَ بإخلاصٍ لينبشها من تحت أكداسِ القهر المتراكم في تفاصيلِ يومه المشبعِ بالشّقاء …سمع صوتين ملائكيين يهرولان بمرحٍ نحو الباب يتسابقان إلى فتحه بشوقٍ يومي لاتخبو شعلته … جثا سعيدٌ على ركبتيه فاتحّا ذراعيه لطفليه فاقئًا بسهام قلبه الكبير غيمات القُبلِ… أوصد الباب بقوة مخلّفًا تعاسةَ الكون وراءه في الخارج…وساد جوُّ من المرح في فضاءِ الغرفة المعتمةِ المفتقرة للنوافذ… فأشرق المكانُ بقناديل الرضا والاطمئنان ..
فادية حسون ..
التعليقات مغلقة.