نوح.. والبيانوللا..
بقلم.. مجدي سـالم
لا يعرف لماذا أختار له أبوه هذا الإسم.. “نوح”.. من بين كل أسماء البشر.. وكان بعض الأشقياء من مدعي العلم.. في المجمع بجواره.. ينطقون إسمه هازلين بطريقة توحي بالإسم كأنه مرادف لمعنى (البكاء) ..
ولا لماذا اختار له القدر هذه المهنة.. عازف البيانوللا.. الراوي والمطرب والمهرج.. وكان جسده لا يمنحه قوام المهرج المعتاد.. وصوته محشرج لا يصلح للغناء.. وملابسه التي يرتديها كل يوم ولا تتغير قد صارت كشراع مركب في مهب الريح.. ونظارته المصطنعة يدعي بها العلم..
ولا يعرف لماذا اختاره مرض الجدري.. هو بالذات.. في طفولته التعيسة.. ليترك كل هذه الأخاديد في وجهه..
ولا يعرف من أين جاءه إدعاء هذا الفن.. وهذه “المفهومية”.. كما يسميها.. مع أنه لا يتقن أي عمل آخر..
مازال “نوح” ينتظر الأطفال كل صباح في الميدان.. يسمعهم أغانيه وأشعاره حتى بح صوته.. رغم أنهم راحت تناقص أعدادهم كل يوم بسبب أنه قد قلت أو انعدمت قروشهم.. في ظل ضيق حال أهلهم.. يجلسهم “نوح” فوق دكته الخشبية التي قست عليها الشمس والسنون وكستها الدهون السمراء.. يدير لهم نفس الأسطوانة.. بينما يتعالى صوت – أو بالأصح حشرجة.. البيانوللا.. وكانت تتعالى صيحات سكان مباني الميدان العتيقة الساخطة ورواد المقاهي وموظفوا المجمع.. ويتأفف منه الواردون إلى الجامعة الأمريكية القريبة.. ويتعالى سباب الباحثين عن النوم إلى ساعات متأخرة من الصباح وقد عز العمل.. حتى المتحاورين بعنف من البائعين الجائلين في الميدان يشكون ضيق الحال والأعطال كانوا يسخرون من.. “نوح” والبيانوللا..
كانت بيانوللا “نوح” قد صارت مادة خصبة للنكات وسيئ التعليقات.. وقد علاها الصدأ وتآكلت إسطوانتها القديمة.. حتى أضحى صوتها وموسيقاها كدحرجة الحجارة فوق ألواح الصاج.. ويصاحبها “نوح” بإيقاع أصابعه الهزيلة يدق على الصندوق ويتظاهر بإنه يتراقص.. وهو يزهو في حلة الكمساري القديمة الرثة.. وينشد بصوت كأنه يأتي من كهوف حفرها الجوع.. يسمعهم “نوح” ذات اللحن ويكرر أبياته الركيكة.. التي لا يعرف أحد من كتبها له.. لكنه كان يتندر بإنها “قصيدة الزمان” السياسية لشاعر مغمور.. ويتعالى صوته..
ماأحلاه موكب الأميرة.. عربتها من الذهب.. تجرها الخيول زينة العرب..
ويحمل العبيد محافات الجواري.. ويحرس الفرسان الركب من الشغب..
تعدو صفوفهم خلفها كالضواري.. والموكب الرهيب يزلزل البراري..
ومردة سود أشداء يزأرون كالأسود.. ويحف المشهد.. حملة الصواري..
ومن خلف الركاب تأتي الكلاب.. تجري وتنبح وتلهث وتثير التراب..
ولطالما شكت الكلاب مرار العذاب.. فوهبتهم الأميرة.. عظام الكباب..
ثم توقفت البيانوللا يوما.. ماتت موسيقاها في صندوقه.. وانطفأت القصيدة في حلقه.. وراح “نوح” يحاول أن يصلحها.. بينما يتصايح الأطفال للنهاية غير السعيدة.. لكنهم يتعجبون من غناء “نوح”.. ولا يرون دموعه.. كانوا يتعجبون كل يوم من ثرثرة “نوح” مع الناس.. عن ضيق الحال والإتاوات التي تأتي على رزقه.. عن هروبه كل يوم من موضع إلى آخر.. ويتعجبون من شكايته للناس من أناس بعينهم يسلبونه قروشه القليلة.. فماذا يعني عند الأطفال العذاب أو الحياة في التراب.. أواللهاث خلف اللقمة أوالرغيف.. وماذا يعنيهم ضيق “نوح” بمن ينازعونه الموضع ومكانه على الرصيف.. ومن يطردونه هنا أو هناك..
لكن.. في اليوم التالي.. لا يعرف “نوح” ويا للعجب.. كيف اجتمع كل هؤلاء الناس في ذات الميدان.. حتى ضاق بهم المكان.. ولا من هم.. ولا يعرف كيف أتت الجرأة الشباب والبنات على التغني بأغنيته على الملأ.. وعلى التهكم على أميرته.. وعلى عظام كبابه وعلى كلابه.. عجب “نوح” من بشر ملأوا كل الميدان.. يأتون من كل الشوارع الموصلة للميدان وسرعان ما يجمعهم الهتاف والصياح.. والنداء والصراخ.. ولا يعرف كيف بهذه الجموع ترفع كل هذه اليافتات والصور والرسومات المضحكة.. ولا تنتهي بينهم أبدا المناقشات.. ولا يعرف من أين أتت كل هذه الأغاني والقصائد التي لا تشبه أغنيته.. وراح يتعجب “نوح” لماذا تغير سلوك الجنود فأصبحوا يطاردون هؤلاء الشباب.. بدلا من مطاردته هو والبيانوللا.. ولا فهم “نوح” لماذا بقي كل هؤلاء الناس في الميدان كل يوم ليلا ونهارا.. لا يكفون عن الضجيج.. يقاتلون الجنود والقيود ويقاتلون حتى الإبل والجمال التي لا يعرف لماذا جاءت إلى الميدان.. ولا يعرف لماذا سال كل هذا الدم.. ولماذا مات كل هؤلاء الناس.. ياالله.. لماذا مات منهم أولاد وبنات ورجال ونساء.. لكنهم لم يتركوا الميدان ولم يكفوا عن الضجيج..
لكن كان الكل يتحدثون عن “الغد”..
حتى “نوح” راح يتعلم منهم ويتعلق بالأمل في الغد.. حين جاءته إحدى الفتيات ذات صباح بإسطوانة جديدة للبيانوللا.. وتفجرت الدموع حوله بينما ارتفع صوته وصوت البيانوللا من جديد.. وراح يصدح ويهلل.. وينشد معه كل الناس بلحن قديم تعزفه الأسطوانة الجديدة.. “بلادي .. بلادي……..”
التعليقات مغلقة.