نياشين الموت… عبد الصاحب إبراهيم أميري
نياشين الموت
عبد الصاحب إبراهيم أميري
————————-————-
موكب جنائزي يخترق شارع مدينة تقرأ فيها آثار الدمار والموت ، يتقدم الموكب صبي صغير يحمل طبقا من النياشين ، ضرب على الطبول بالية مرتبكة، تكشف عن فرقة موسيقة عسكرية، اهلكها التعب ، تابوت محمول على اكتاف رجال، أخفيت وجوههم خلف أقنعة موحدة، لا تشم منها رائحة الحياة، الشارع خالي من المارة ، عدى عددا من الوجوه الكئيبة نراها من خلف شبابيك النوافذ، تراقب المشهد الجنائزي بوجوه ميته صفراء، يبتعد الموكب ، يترك عددا من الشيوخ والعجائز منازلهم ويسيرون برتابه قاتلةمن دون أحاسيس، خلف الموكب والصمت يغلي على المشهد
،،،،،،،،،،،،
مكتب فخم، يجلس خلفه رجل سبعيني، مرتديا ملابس النوم، مصباح المطالعة الموضوع على مكتبه يكشف عن اوراق متناثرة على المكتب و طبق من النياشين يحرك باصابعه النياشين
يفتح مظروفا، يقرأ منه
-هذا كل الذي كان يحتفظ به المتوفي
يتحسر الرجل السبعيني بعمق ٠يقع بصرة على صورة لشاب عشريني صورت بالأبيض والأسود،، يرفعها من المكتب يتاوة
- كل ماتبقى منك هذه الناشئين يا محمود
تتساقط دموعه دون بكاء، ويخط على الورقة،
زقاق فقير في جنوب العاصمة ، ساعة متأخرة من الليل-لا أحد في الزقاق – عاصفة هوجاء تهب على الحي وتغير ملامحه، نباح الكلاب يكسر حاجز الصمت ، البيوت أبوابها موصدة، لا نرى فيها نورا، كأنها بيوت أشباح , صوت لرجل يسمع من بعيد - قف
يليه صوت إطلاق نار
،،،،،
غرفة نوم. مبعثرة،اثاث مستهلك ، وتلفزيون خشبي كبير، يحتل جزءا كبيرا من المكان ، صورة كبيرة لامرأة متوسط العمر،ترتدي العباءة ،في وسط الصالة ، إنارة خافته من حمام المنزل ،تنير جزءا من الصالة ،في الجانب الآخر ، صورة للمسجد النبوي الشريف ، يكشف الضوء الخافت ، عن سرير حديدي لشخص واحد،يحتل جزءًا من الغرفة، العاصفة تحرك ستائر الغرفة وتخلق صوتا موحشا
، رجل الخمسيني يتقلب في السرير ،نور ضئيل ينير المكان من نافذة الغرفة، صوت اطلاقات نارية تأتي من بعيد ،نباح الكلاب تعلو من جديد
ساعة الحائط تشير إلى منتصف الليل
يفتح الرجل عينيه وينظر صوب الساعة المستهلكة ،النور الضئيل ،ينير عقارب الساعة ،انها الثانية صباحا،يجلس الرجل على حافة السرير، وينظر متفحصا المكان ،كمن يريد أن يعرف مكانه على وجه التحديد، ما أن تقع نظراته على صورة لشاب، ،معلقة على جدار الغرفة ، يبتسم للصورة كمن يرحب بها ،يقف عند سريره مسحورا بها، يخطو خطوتين نحو الصورة آليا،يتاملها ويتمم بكلام غير مفهوم،ثم يبدأ بمسح الصورة بحنان بالغ، تسقط دمعتين من عينيية، العاصفة تحرك الصورة من مكانها ،يمسكها الأب كي لا تقع - ارجو أن لا اسبب لك إزعاجا يا ولدي وقرة عيني.أنها أمور عاطفية وخارجة عن الإرادة
هكذا اعتاد الاب ان يرسم جدول يومه ولا يتمكن أن يمنع نفسه عن البكاء،أنها مراسيم أعتاد عليها منذ عامين ،ما أن تحين الساعة الثانية بعد منتصف الليل ،ساعة وصول خبر استشهاده، يسترجع شريط الاحزان ،عامان وهو على هذه الحالة ،
صراخ وعويل وبكاء نساء واطفال يسمع من قريب، الأب يبكي لا اراديا ويمسح دموعه بكم ثيابه، وينظر للصورة كمن يريد أن ياخذها بالاحضان، - في هذه الساعة أتوا بجثمانك
لاشك أنك تعلم يا ولدي بأني بقيت وحيداً، احزن وحيداً،وابكي وحيدا ،
واعيش وحيدا ، بعد أن سكنت امك المقابر والى الأبد
،،،،.
وصراخ النسوة والأطفال تتجسد للرجل السبعيني،القابع خلف مكتبه
بكاء، قلمه جانبا ، ويحمل الصورة ثانية، وهي نفس الصورة التي شاهدناها في غرفة الرجل الخمسيني، يمسح عينية من الدموع المتساقطة لا اراديا ، يتصحف الاوراق التي كتبها ويهم بالكتابة.
ساعة متأخرة من الليل-صوت نباح كلاب يسمع من بعيد، ظلام دامس يخيم على أجواء المقبرة ،امرأة في الخامسة و الاربعين تناجي وتبكي بمرارة على قبر ولدها ، ، تفتح مصحفا وتخرج من بين طياته صورة لشاب عشريني تناجيها ، وهي النسخة الثانية و من الصورة المعلقة على جدار الغرفة تجلس بالقرب منها أمرأة أخرى، تحاول تهدائتها، ،
، -اصبري يا أختاه والله يحب الصابرين ،
-لا اطيق ،والامر خارج عن ارادتي يا أختاه ، ، لقد جن جنوني وانتحر صبري - انت لست الوحيدة التي فقدت أبنها ان تركك البيت في مثل هذه الساعات يشكل خطرا عليك وعلى زوجك وعلينا خاصة وأن الأحكام العرفية قائمة ولا ترحم أحدا،أرحمي نفسك،أرحمي زوجك المسكين وأرحمينا.
الأم – وماذا أفعل ؟
الاخت -هيا بنا نعود يا أختاه
الأم – نعود ، وبهذه السرعة ، ؟
الاخت – الوقت متأخر، أنهضي بالله عليك
،،،،،،،،
كلمات شقيقة أخته ترن في اذنية عالية، يضع أصابعه في اذنية، كي لا يسمع ، ويصرخ دون شعور
-كم من مرة طلبت منك ترك زيارة المقبرة منتصف الليل
يقع الرجل الخمسيني على السرير ويبدأ بالبكاء كطفل صغير،
تلتقي نظراته بنظرات ولده، يمسح عينيه بكم ثيابه،. مخاطبا الصورة - امك سكنت المقابر يا ولدي
،،،،
قطرت من الدموع تسقط على أوراق الرجل السبعيني، فينتشر الحبر على الورقة ويلوثها، فيحاول جاهدا ترميم الورقة،
ويعاود الكتابة
ظلام دامس يعم طريق المقبرة، ومطبات الطريق ، لا شيء يظهر من المرأتين ، سوى عباءتهما السوداءالتي تتحرك في الظلام
تكاد الأم ان تقع على الارض، فتمسك بها أختها، صوت إبنها يخترق الحواجز
-احذري يااماه
تصاب الأم بحالة هسترية، تلتفت يمينا وشمالا. تبحث عن أبنها
-إين أنت ياولدي
دموع أختها تنهار لا اراديا، ولا تدري كيف تتصرف،
- اعطني يدك
تستسلم الأم. وتمسك باختها بقوة، ويسرعان، السيدتان ،تتركان المكان على عجل ولازلت الأم تبحث بنظراتها عن إبنها
صوت يخترق حاجز الظلام - قفا
تختلط الأشياء والأحداث عند الأم واختها،
-أتوا بجثمان ولدي اسرعي
صراخ وعويل وبكاء نساء واطفال يسمع من قريب، الأم تضرب على وجهه وتبكي بمرارة لا اراديا
تمسك بيد اختها وتسرعان
صوت الحارس، يخترق الحواجز، تترك الأم يد أختها مسرعة، تحاول الأخت الالحاق بها، وصوتها يدوي
-لا لن نقف جثمان ولدي بانتظارنا
، – قفا، مكانكما ،. قفا
أصوات اطلاقات نارية يغلب على المشهد، لحظات،. يعلو صوت الأخت،،
-واه أختاه
،صوت إطلاق الرصاص، يثير خوف الكاتب ينحني قليلا ، كانه هو المستهدف قطرات من الدم تسقط على مكتبه
يصرخ الرجل السبعيني
“خاله
لا يطيق الكتابة يضغط بكلتا يديه على راسه ودموعة تتساقط لا اراديا ، يفتح جرار مكتبه ويخرج صورة خالته
يقبل الصوره ،
،،،،،.
يواجه الأب في ظلمة الليل إبنه كمن أتى اليه زائرا ، يطرق باب الغرفة بهدوء، ونظراته لا تفارق الصورة، ينتظر قليلا، يتمتم مع نفسه بكلام غير مفهوم،. يعيد الكرة ثانية
صوت يخترق مسامع الأب
-كنت قلقا بشانك يا ولدي، البقاء لله
امك توفيت، قتلوها،. كما قتلوك ، اسرتنا لا تموت إلا بالرصاص
من تلك الليلة الكئيبة لم تخرج امك للمقابر وأصبحت صورة ساكنة كابنها.
يمسح الأب دموعه بكم ثيابه وحالها من حالك قتلوها منتصف الليل
ساتركك يا ولدي. مع أن قلبي لا يود ذلك ،
ساذهب الي فراشي والقاك غدا ،لابد أنت الآخر بحاجة إلى إستراحة
يعود الأب الي سريره متكاسلا ،يجلس على حافة السرير، يلقي نظرة أخرى على الصورة، يضع إصبعه على زر المصباح
الأب – ما أن بضغط ، على زر المصباح، حتى يعم يظلم الظلام
يرمي بجسده المتعب على السرير ،ونظراته لا زالت ملتصقة بالصورة
الصورة -لم لم تنم يا ابي ؟
الأب-تحدثني؟
الصورة-نعم.
الأب – أصابني الأرق
الصورة- حاول أن تنم يا أبي
الأب – انت لا زلت يقظا من أجلي
الصورة – انت تتعب نفسك. نم
الاب- سانام
يغطي الأب وجهه بالغطاء
موكب جنائزي يخترق شارع مدينة تقرأ فيها آثار الدمار والموت ، يتقدم الموكب صبي صغير يحمل طبقا من النياشين ، ضرب على الطبول بالية مرتبكة، تكشف عن فرقة موسيقة عسكرية، اهلكها التعب ، تابوت محمول على اكتاف رجال، أخفيت وجوههم خلف أقنعة موحدة، لا تشم منها رائحة الحياة، الشارع خالي من المارة ، عدى عددا من الوجوه الكئيبة نراها من خلف شبابيك النوافذ، تراقب المشهد الجنائزي بوجوه ميته صفراء، يبتعد الموكب ، يترك عددا من الشيوخ والعجائز منازلهم ويسيرون برتابه قاتلةمن دون أحاسيس، خلف الموكب والصمت يغلب على المشهد ، يحاول الأب الالتحاق بالركب إلا أن رجلان، لا يمكن تميز وجههمان يحاولان منعه، يصرخ بأعلى صوته
-“أريد مرافقة ولدي
أصوات الطبول تعلو في الغرفة ، الأب يتقلب في فراشه يمينا وشمالا، وهو يصرخ - أريد مرافقة ولدي
،اصوات الطبول تؤذي الأب ، يستيقظ فزعا،تختفي الاصوات تدريجيا، يقوم من مكانه
،،،،،،.
أصوات الطبول تدوي في أذن الرجل السبعيني، يرفع أوراقه من المنضدة يقرأ منها
يحاول الأب الالتحاق بالركب إلا أن رجلان، لا يمكن تميز وجههمان يحاولان منعه، يصرخ بأعلى صوته
-“أريد مرافقة ولدي
، صوت أذان الفجر يعلو من المسجد القريب من مكتبه ، يترك المكتب للصلاة
يترك الأب الغرفة للوضوء ، يسمع صوتا نسائيا من خلفه
-صباح الخير. تقبل الله
يلتفت صوب الصوت لا يلحظ أحدا، ينهي صلاته ولا زلت عينيه تبحث في المكان، يعود إلى سريره ، يغفو
ساعة متأخرة من الليل ، صمت رهيب ومخيف يغلب على المشهد شاحنة كبرى للحمل تخترق المقبرة من خلال انوارها ، نلحظ عددا من الرجال مشغولين بحفر القبور ، تتوقف الحافة على جانب ويعود الظلام الدامس للمشهد ، لا يمكن تمييز الأشخاص، كم كبير من الجثامين ترمى من الشاحنة على أرض المقبرة بانتظار دفنها،
يتاوه الأب ويتقلب في سريره،
إحدى الجثامين تتحرك داخل كيسها. تخترق الكيس وتخرج للخارج وهي تحمل معها طبقا من النياشين ، لا إحدى يلحظها
تقف على َ مرتفع
-خذوا نياشينكم انها زائفة.
يرمي النياشين
يستيقظ ا الأب مبهوتا
موكب جنائزي يخترق شوارع المدينة
فرقة موسيقية تتصدر الموكب ،اربعة رجال يرتدون ملابس خاصة وقبعة افرنجية ونظارة سوداء ،يحملون النعش على أكتافهم ،رجلان من نوع حاملي النعش ،يقودان الأب، الأب يرتدي ملابس عزاء رسمية ،ويخطو خطوات محسوبة مع انغام الموسيقى الجنائزية،يبكي بحرارة،يرفع يداه بين حين واخر كمن يريد أن يأخذ ابنه بالاحضان،الا أن الرجلين يمنعاه
لحظات ويرفع غطاء التابوت ، يفقد النعش توازنه ،فيحاول الرجال السيطرة على الموقف،يجلس الميت في التابوت وينظر بدهشه للجموع المشيعة ، في البدء يحرك يديه ،تحية للحضور،معتقدا بأن الجمع جاء لاستقباله تتغير انغام الموسيقى الجنائزية الي موسيقى استعراضية
ينتبه الأب الي إبنه الذي عادت اليه الحياة لا يصدق عينيه،يصرخ عاليا
-ولدي محمود. و
ما أن يسمع الإبن صوت ابية فيلتفت للخلف، ويرى ابوه في حالة مزرية ،ينظر إلى نفسه،فيكتشف ،انه يرتدي الكفن ،يرتبك ويخاف ويتحرك في التابوت، يحاول حملوا التابوت الحفاظ على توازن التابوت، يضع الرجال التابوت على الارض ،يتجه الإبن صوب أبيه ،يشق طريقه وسط الجموع جموع المشيعين يتفرقون خوفا ،يتاخذ الرجال الأربعة حالت الاستعداد ويوجهون نيرانهم صوب ، محمد يطلقون النيران
يصرخ الأب فزعا ، يقع الإبن أرضا غارقا بدمه، يحمل الرجال الأربعة الميت باحترام بالغ و يضعونه في التابوت وتسلك الجنازة طريقها وكان أمرا لم يكن وتبدأ الفرقة الموسيقية بعزف المقطوعة الجنائزية
يستيقظ الاب فزعا وينظر باتجاه صورة ابنه، فيجد الصورة تتحرك يمينا و شمالا, وعلى أرض الغرفة مجموعة من النياشين
فيصرخ الأب عاليا ويبدأ بسحق النياشين بقدمه ،
يد تطرق بقوه على زجاج نافذة الغرفة ، يقف الأب دون حراك خائفا
الصوت – اسرع إلى فراشك
النهاية
~~~~
التعليقات مغلقة.