هذه قصتي ” رباط غليظ ” بقلم :محمود حمدون
هذه قصتي ” رباط غليظ ” بقلم :محمود حمدون
بيت مهجور لا يزال يكابر السقوط في عناد … جواره بحثت عن ” عبد الحليم ” لم أجده ..هل مات ؟ أجرى عليه ما يجري على الأحياء ؟ فجأة طغى صوته على صخب المكان, انبعث من العدم ثم طفت صورته فأزاحت ما حولها , فكأن الأمس قد اتصل بحاضري.
يهلّ ” عبد ” في أيام الصيف القائظ , يدفع عربته الخشبية أمامه أحيانا أو يجرها خلفه متأبطًا إيّاها برباط غليظ حول كتفه, ,يضع عليها نوع رديء من ” الجميز ” ثم ينادي بضاعته كعاشق يتغنّى بحبيبته .
لم يأبه بحرارة الصيف رغم سيره دائما حافي القدمين يرتدي معطفا ثقيلًا كالح اللون ,يعتمر عمامة كبيرة يُحكّم لفّها حول رأسه خشية أن يفقد ما تبقى من عقله وحكمته..
عم ” عبد ” كما كان الناس ينادونه , تجاوز الكهولة بزمن , لحيته نابتة خشنة يضرب البياض جنباتها تاركًا مساحة سوداء صغيرة أسفل ذقته , بشرته تميل للسمار ربما بحكم مهنته في حر الصيف , غليظ اليد مفلطحة الأصابع والكفين, عيناه صغيران تبرقان بشدة, .
عربته الخشبية هي رأسماله , وملاذه , يبيت على سطحها صيفًا , يختفي أسفلها متكوّمًا حول نفسه شتاءً , يمارس حرفتين , بائع جوال لبضاعة لا يشتريها احد و ” مسحّراتي ” في شهر رمضان . مهنة لم يأخذ عنها أجرًا أبدًا.
وقد سألت عنه الأوّلين, جميعهم ذكروا حقيقة واحدة أنهم وُعوا على الدنيا و ” عم عبد” مقيمًا على ناصية الشارع بعربته الخشبية , بعضهم تذكّر بحسرة أيام ولّت بغير رجعة عن لهوهم بعربته أو مغافلته و سرقة بضعة ثمرات من ” فاكهته ” ,أكدت عجائز أن شهر الصيام لم يكن يحلو إلاّ بصوته المنغّم .
المرة الأخيرة التي رأيته , كنت أغادر لمستقبل مجهول , حيّيته بإيماءة من رأسي ثم أوليته ظهري مفعمًا بأمل يتراقص أمام عيني و تركته يدفع عربته الخشبية أمامه, وقد ارتسمت على وجهه للمرة الأولى مرارة لا تخطئها العين .
التعليقات مغلقة.