هل حلت لحظة الوداع الأبدي؟
بقلم رشيد الموذن
ثمة رغبة في الكلام أبعد من القول …
بين تلك التصاميم التي تخفي أسرارا يعجز اللسان عن النطق بها
وبين الحيرة في الرمز حيث تمزقت الشفة العليا بغية التحرر من لجامها…
حقا كل الجادبية أن تسمع النطق ويغيب عنك المعنى ..
أو تكون الرغبة في الصياح تصل طرف الكون …
وقد أحرقت الأغاني الظل البائس بالشوق والشجن ، من حيث جثى الليل على ركبتيه وليس بجسمه إلا نبيذا معتقا فاخرا بلا قطرة ماء ..
و تصاعد التثاءب من ثم في كل اتجاه يغالب كل ذاهب الى نومه الأبدي..
معلوم جدا إذا أقبلت الحياة يتعقبها دوما الموت مبديا استعدادا كاملا ليضحي بها في أي حين ووقت ما شاء
ومن هنا فقط تبدو الأحزان كأنها تمر بجحافلها تدحر
الأيام وتسجنها في هذه الغابة الموحلة ، نعم في هذه المسافة الفاصلة الممتدة بين العراء ..
وبين حلقة الغناء التي، يتوسطها دهر من الكآبة وزبد دخان في كثل منفوشة بيضاء..
تتهادى نحو صف النسوة المصروعة في ساحة الرقص الواسعة .
حقا التدريب على هذا الرقص في حضرة الحسان هي مهمة الفرسان
والغزوات العاطفية لا تنطلق في ديار المعشوقات عادة الا بعد منتصف الليل…
حيث تتسلل في الظلام الى الخيام تسامر بالسهام وتخطف القبلات بالنبال .
ثم تقفز لتحرقها شوقا عبر السفر الليلي الطويل ..
لتعترف في الأخير أن الطير يطير الى محبوبته ولا تطير إليه
ولا عيب في عاشق يعشق ويهاجر للقاء ..
بل حتى وإن مثخنا بجراح جاء.
لكن في مهب الريح المغيرة صبحا والواسطات بها جمعا والمعشوقات تبرح بكعب عالي رياء ..
تتدفق من كل الجهات من الحدائق والمنازل والحانات لا عنوان لها طالها البلاء…
وانفجرت فاتحة دفعة واحدة صنبور النحيب الملون ببريق الذهب اللامع في عين الجشع الراغب في الإستلاء .
ها هي تتوسل أن يأخد كأسها مداه وأنا لها أن يستجيب الإناء .!!.
تحدق في غضب والماء يفر من بين أناملها مغمض العينين
على هذه الأرض التي تهتز من حين لحين كأنها عرجاء ..
أو كأنها على كف عفريت يداعبها وهي تبتلع كل ما يمتد لأحشاءها ثم يسيل الى بحارها القصوى في قعر سحيق ..
كما أيضا تطفو على أديمها الجثث في الكهوف والدور وناطحات السحاب ، ظنا منها أنها اختفت ممن هو في قمة الحاجة اليها يتعقبها .
أيتها الحسناء القادمة من بقايا الصباح الموؤودة في قعر الذاكرة دون هوية من أطماع الغزاة
تمخر عباب الليل الى فصل طويل
الى حياة تعيشين خواءها مدبوغة بالأرق والمحن تعوين من فرط اللذة المستقات من شقاء جنتك المغلقة التي يبحث عنها العميان . فلا نعيم ولا جنة ولا فراديس على هذه الأرض تكتمل زهاء .
نعم لإن امتدحك الشعر لربما ثمل من كأس الحياة فرأى نفسه يرفسك وهو يسقط من رحمك الى الهاوية ، لينجز مهمته بضراوة الكائن الذي يهرب نحو طرائده المترفة غباء ..
فوحده الظلام من يطلق الليل سراحه ليزداد توسعا ويلتهم المواقع ، يأكل الجسم ينتشر ليطوق البطن ويلتهم القوائم التي حفر فيها العقال جرحا عميقا أصابها بوباء .
ويبقى الأمل ضعيفا في التجوال مع هذا السواد الحالك . إلا باقتفاء أثر الكلاب والتهرول وراءها حتى وإن سرحت لتقضي حاجتها في الخلاء..
حقا الغشاوة ليست قدر كل الكائنات لكن الكمائن هي من تعلم تجاوز الحيل .. فمعلوم جدا أن الظلمات لا يبقى في عمقها إلا الجن والشياطين وهم ملتزمين بقوانين اللعبة لا يعرفون فيها خيانة ولا ينتابهم بها عياء …
أما عداهما يعتبر حيوان جائع يلتهم ما على وجه الأرض يملأ فاه ثم يطيل عنقه ليلوك طعامه كالجمل فيهمد ويموت في نهاية سكون ليلي . ولا يبقى تحت لحاف هذه الظلمة إلا مصدر أنين موجع ، ومعلوم أن الأنين لا يصرخ إلا إذا تجاوز الألم حده ، أو عند تجاوز الحدود بانسلاخ الجلد والتقشر ثم السقوط في منتصف الطريق دون أي نزيف …
ولا ضير حينها على الجنون قد يليق به إن ترك في النجع الموحش مع الوحوش بل حتى وإن مزق الجسد ساقطا قطعة قطعة أمام عيونه النكراء …
لكن البطولة دائما تكون في التخطيط لإنهاء الألم ، فكل شيئ جميل ثمين ، لا يشترى إلا بثمن باهظ والفوز به لابد أن يكون مع طهارة باطنية وهذا شرط أساسي. كما لا يمكن أن تأتي الذاكرة بالحقيقة كاملة إلا بعد سيادة الجوع بالرغم من أنه يهين أنبل المخلوقات ، ويسرق النوم العميق منها ، لكن مقاومته فعالة تستطيع تحليل الأجساد وتذهب الديدان والباكتيريا عن الأبدان ..
فلما هذا التحقير الخفي للجوع ؟! من غير التذكير بهذا التلميح الأخفى في آذان الديكة التي توقظها المشاجرة ، للإطاحة بسعر البر والبن وحتى التبغ الثمين والنبيذ الفاخر …
وهل إتيان العرافين الوثنيين ، ونحر القرابين للنذر بالعجل السمين ، سليم العقل والجسم يعفر وجهه في تراب الضريح القديم شفاء !؟
وهل يا ترى ستساعد هذه الأساطير الموروثة على معالجة ما تبقى من هذه الرحلة المجنونة في هذا العراء !؟
وهي تمر عبر العمق لا ينفع معها إمساك لا بدلو ولا بجدار خصوصا دون إرادة ولا تصديق حتى لمعجزة خرقاء …
إذا بخلت السماء بالأمطار ليس هناك من يربط مصير الرحلة الممتدة من فوهة الجب الى قعر الماء …
دون محاورة تلك الجدائل الكثيفة التي ترقد على صدر النافر بالبيداء ؟!
أفلا يعلم أن قطع هذه المسافة القصيرة لا تمر إلا عبر دمعتان تتلألأ في العين مع بسط أكف الراحة والرأس مرفوع متوج بتاج فخم يوجه خطابا مكتملا الى السماء .!!؟.
رشيد الموذن
المغرب
التعليقات مغلقة.