هنا غرستُ أشجاري قصة قصيرة بقلم.. أسماء محمد
– أبي، الرجل يسألك، هل قبلت..؟
أبوك الآن ليس معك، أبوك الآن تائه في دروب الذكرى، يقاوم بحار الحنين التي سُجِّرت حين هلّ طيفها..!
مقبلة من بعيد في عباءتها السّوداء القصيرة، تخبئ كيس الطعام تحت طرحتها الحمراء بعد سواد، خبز وطماطم، عندما تشتد حرارة الشمس نأكله.
– جدتي، صحتك ما عادت تحتمل..!
وأنا أقضمُ قطعة الخبز قلت، جففتْ عرقها بطرف طرحتها، افترشت الأرض وهي تقول:
– ومن للأرض يا وحيد جدتك.؟
– أنا يا جدة.. أنا.
أمسكت أذني، ضغطت عليها بيدها التي عرّقتها الهموم:
– أنت للعلام.. للعلام وبس.
جدتي عزيزة، تزمجر الفأس في يدها، تعزق الأرض فتتقاطر حبات العرق لؤلؤا فوق جبينها الأسمر، تصافح وجه الأرض فتهتز وتربو، حين تراها رافعة فأسها، تشعر وكأنها تلقي بسنواتها الستين خلف ظهرها..!
لدى جدتي عين واحدة، بعد أن أكل الفقر والإهمال عينها اليمنى، وهي مع ذلك تزرع الأرض، وتساعد أمي في أعمال البيت، وتتفق مع الرجال على أثمان المحاصيل.
أذكر ذلك اليوم الذي لا شمس له، كذلك وصفته جدتي، دخل غريب قريتنا، أغرى الناس ببيع أرضهم، كانت أمي ترغب في بيع الأرض، لكن جدتي أبت، بقوة وعزم أبت:
– الأرض عِرض، كيف نفرّط في عرضنا يا ولدي..؟!
– سيعطينا من المال ما يكفي يا جدة.
– هنا غرستُ أشجاري، ولن أدعها لغيري.
توفيت أمي بعد أن مصّ السّلّ عظامها، وظلت جدتي صلبة صامدة، تعُض بالنواجذ على قراريطها العشرة، مصدر رزقنا الوحيد، حتى أصبحت طبيبا تفاخر به القرية كلها، لحظة موتها أوصتني بالأرض كما لو كانت أحد أبنائها.
“هنا غرست جدتك أشجارها، لا تفرط فيها يا ولدي”
ابني اليوم سيفرط، التعليم الذي طالما أحببته سيّطر على عقله أكثر مما ينبغي، فكره القرية واليوم يجبر أباه على تركها.
“وأنت كيف ترضى؟!”
“أصبح حفيدك شيخا في الستين”
“هل يفرط الإنسان في عِرضه مهما بلغ يا ولدي؟!”
تردد صدى سؤالها بأذني دون انقطاع، خلعت جاكت بذلتي، طرحته جانبا، أمسكت الفأس ورحت ألقي سنواتي الستين خلف ظهري، وسط ذهول ابني، والسمسار الذي يحاول إقناعي بالثمن!
التعليقات مغلقة.