ورثة جدتي بقلم د. إبراهيم مصري النهر
تزوجت ولم تنجب ومات عنها زوجها، لا يزورها أحد غيرنا، أسأل أبي عن أهلها يجبني: نحن أهلها.
تعيش في بيت بسيط مكون من؛ حجرة، وحوش واسع به موقد حطب ومراقد للدجاج وبنيات لحمام تسمع هديله ونقنقة الدجاج من بعيد.
الحجرة أثاثها؛ صندوق تضع فيه مدخراتها وتعلق مفتاحه بخيط حول عنقها، وكنبة تأوي إليها عند المساء، وفي أحد أركانها مجموعة من القنينات والبرطمانات الزجاجية التي تفوح منها رائحة التوابل والبهارات والعطور.
تكره جدتي البقاء في خمود الظل، لا تحب أن تدخل بيتها إلا بعد غروب الشمس الهارب عن الدنيا، تقضي جل وقتها مع أمي تساعدها في طهي الطعام وغسيل الملابس وتنظيف البيت، تحبها أمي كثيرا وتأمنها على أسرارنا، ولو غابت يوما تسأل عنها، تطعمها مما نطعم، وتجود عليها بالمال ولا تبخل عليها بشيء، وظلت تتردد علينا حتى أصيبت بخشونة وتآكل في مفصلي الركبة وأصبحت غير قادرة على الحركة إلا بصعوبة، ضعف سمعها وبصرها، وإن كانت قد قويت بصيرتها، علمتها وقائع الدهر الجلد والصبر، لا تخشى هبات الريح القادمة من كل صوب بعدما عبثت بوجهها مصائب الدنيا وإن ظل مشرقا يتحلى بحكمة العمر.
تحول الحال وأصبحت أمي تزورها وتخدمها في كل صباح، وفي المساء أنتظر بلهفة موعد زيارتها اليومي بطبق مما طهت أمي للعشاء، عند الباب أضع الطبق وأطرق بكلتا يديَّ حتى تسمع، تتحسس عصاها، تتكيء عليها، تفتح الباب، أضع الطبق في حجرتها، أساعدها في عمل ما تحتاجه، تمد يدها إلى برطمان بعينه، تضع في كفي بعضا من السمسم المحمص والمصحون بالسكر، وتخرج من كيستها بيديها المرتعشتين قطعة نقود معدنية وتعطيها لي.
تساعدها أمي صباح كل يوم جمعة في جمع البيض من مراقد الدجاج وصغار الحمام من البنيات لبيعه لعمي بائع الخضار وتدخر ثمنه في صندوقها.
يوما أراها ربيعا بثوبها الزاهي ونطاقها الأحمر ووشم ذقنها الأخضر، ويوما شتاءً بوشاحها الأسود ووجها الملبد بغمام الهموم، أسمع صوتها تنعي حالها لدجاجاتها، لكنها في كلا المناخين كانت تعطيني السمسم وقطعة النقود.
لم تستطع يوما أن تفتح لي الباب من شدة المرض وطلبت مني أن أدفع الباب وأدخل، وجدتها ترتعد وفي حالة اعياء شديد، وضعت الطبق بجوارها، وأسرعت في الإياب وأخبرت أبي بحالها، خرج مسرعا بعد أن أخذ معه بعضا من أقراص الدواء من كيس يضعه بعيدا عن متناولنا.
في الصباح لم تتحسن حالتها، أخذها ومعه بعض من أهل القرية للطبيب، لم تمكث طويلا بعدها وانطفأ قنديلها، اختفي هديل حمامها، خرست دجاجتها عن النقنقة.. ماتت.
وفي سرادق العزاء حضر أناس غرباء لم نرهم من قبل لأخذ العزاء في عمتهم، ثم أخذوا ما في الصندوق وباعوا الدار وتقاسموا ثمنها واختفوا.
التعليقات مغلقة.