وعد شر ف
عصام قابيل
يؤسفني جدًا أنني لا أستطيع أن أذكر لكم اسم هذا الصبي الصغير , وأين يعيش , ومن هي أمه , ومن هو أبوه , لأنني في الظلام لم أتمكن من رؤية وجهه . فقط أذكر ان أنفه كان به بعض النمش , وأن بنطلونه كان قصيرًا , لم يثبت بحزام , وإنما بحمالة تنقلب من فوق الكتف , وتزرر في مكان ما على البطن .
على نحو ما , توجهت في الصيف إلى حديقة – الميريلاند – بالقرب من في حي مصر الجديدة . وكان معي رواية ممتعة للروائي عصام قابيل لفت نظري عنوانها – كرامة من زجاج – , رحت أقرأ فيها , ولم ألاحظ كيف حل المساء .وعندما ضعفت عيناي من الزغللة , أصبحت القراءة من الصعوبة , ونهضت متجهًا للخروج . .
كانت الحديقة قد بدات تخلو من الناس , وفي ممراتها , راحت المصابيح تشع من آن لآخر . ومن خلف الاشجار رن جرس الحارس . ولأنني خشيت أن تغلق الحديقة , مشيت مسرعًا جدًا . وفجأة توقفت . فقد وصل إلى سمعي من خلف بعض الشجيرات أن أحدًا يبكي . .
انعطفت إلى جانب الطريق , حيث لاح على البعد بيت صغير بلونه الأبيض وسط الظلام : بيت حراسة أو كُشك كذلك الذي يوجد في كل حدائق المدن . وكان بقربه حائط , وقف بجانبه فتى صغير ,لا يزيد عمره عن سبع أو ثماني سنوات, وهو مطأطئ الرأس , وينتحب بشدة , دون سلوى من أحد!
اتجهت إليه وناديته:
- أيها الصغير . . ماذا بك ؟
- لا شيء .
- كيف لا شيء . . من ضربك ؟
- لا أحد .
- ما الذي يبكيك إذا ؟
كان من الصعب أن يتكلم , وكذلك أن يمسك بكل دموعه . وكان ينشج ويفوق ( من الفواق: الزغطة ), وينشق بأنفه !قلت له: - هيا نمضي . . أنظر ، فقد صار الوقت متأخرًا ، والحديقة تغلق . .
وأردت أن أجذبه من يده , لكن الصبي سحب يده بدون حرج قائلًا: - لا أستطيع
- ما الذي لا تستطيعه ؟
- لا أستطيع السير
- كيف ؟ لماذا ؟ ماذا بك ؟
- لا شيء
- هل أنت مريض ؟
ــ لا . . صحيح بصحة جيدة . - إذن لماذا لا تستطيع السير ؟
- أنا حارس
- أي حارس ! أي حارس !
- ماذا أنت ؟ ألا تفهم ! نحن نلعب . .
- آه . . مع من تلعب . .
سكت الصبي , وبلع ريقه , وقال: - لا أعرف .
وهنا بدا لي أن الصبي ربما يكون مريضًا , وأن في رأسه خبالًا . قلت له: - اصغ إلي . . ماذا تلعب ؟ وكيف كان ذلك ؟ تلعب . . ولا تعرف من أنت ؟
- نعم , لا أعرف . فقد كنت أجلس على دكة في الحديقة وأقبل مجموعة كبيرة من الأولاد , وقالوا لى : ” هل تريد أن تلعب معنا لعبة الحرب ؟ ” فقلت: ” أريد ” . ورحنا نلعب . قالوا لي : ” أنت عرَيف “وكان هناك ولد كبير أرسلني إلى هنا , وقال: إن لدينا مستودع ذخيرة في هذا الكشك وستكون أنت حارسه . فابق هنا , ولا تنصرف حتى لا أبدلك بشخص آخر قلت له: “حسنًا ” . قال:
” أعطني وعد شرف على أنك لن تذهب ” . - هيه . .
- قلت له: ” وعد شرف: لن أذهب “
- وماذا بعد ؟
- ها أنا ما زلت واقفًا . . واقفًا , وهم لا يأتون !
حينئذ ابتسمت وسالته : - حسنًا . . وهم وضعوك هنا منذ وقت طويل ؟
- كان النهار لا يزال . .
- ولكن أين هم ؟
- أعتقد أنهم مضوا . .
- كيف مضوا ؟
- نسوا . .
- ولماذا تجلس إذن ؟
- لقد أعطيت وعد شرف . .
أردت أن أبتسم مرة اخرى , لكنني تنبهت فجأة إلى ان الضحك في هذا الموقف لا يليق , وأن الصبي على حق تمامًا . فما دام قد أعطى وعد شرف , عليه أن يبقى مهما حدث ولو على حياته ! ويستوي بعد ذلك أن يكون الأمر لعبة , أو غير لعبة .
قلت له: - إذا كان هذا قد حدث ، فماذا تصنع الآن ؟
قال الصبي , وقد بدأ يبكي: - لا أدري
أردت أن أقدم له أية مساعدة ممكنة , لكن . . ماذا أستطيع أن أفعل ؟ هل أذهب للبحث عن أولئك الأطفال السخفاء , الذين وضعوه في الحراسة آخذين منه كلمة شرف , وأسرعوا هم إلى منازلهم ؟ لكن أين أجد هؤلاء العفاريت ؟ ! لا شك في أنهم قد تناولوا عشاءهم , وذهبوا إلى الفراش ،
ورأوا عشرات الأحلام . أما الصبي , فيجلس هنا الساعات الطويلة , في الظلام , وهو جائع حقًا ! وسألته : - هل تريد أن تأكل ؟
- نعم . . أريد .
قلت بعد تفكير: - حسنًا , أسرع أنت للمنزل لكي تتعشى , وسأبقى أنا بدلًا منك هنا .
وقال الصبي: - نعم . . لكن هل هذا ممكن ؟
- ولماذا لا يمكن ؟
- إنك لست شخصًا عسكريًا
هرشت قفاي , وقلت: - صح . . لن تذهب . . حتى أنا لا أستطيع أن أكون مناوبا مكانك . الذي يمكنه أن يقوم بهذا العمل شخص عسكري . . قائد !
وفجأة قفزت إلى ذهني فكرة طيبة , واعتقدت أنني إذا حررت الصبي من وعد الشرف , فإنني أحرره من الحراسة أيضًا , هكذا ينبغي أن يكون العمل . لكن من الضروري الذهاب للبحث عن شخص عسكري.لم أقل شيئًا للصبي . أبلغته فقط “انتظر لحظة ” وأسرعت بنفسي إلى مكان الخروج .
لم تكن بوابة الحديقة قد أغلقت بعد , أما الحارس فقد ذهب إلى أقصى الحديقة , لكي يتصل من هناك بمركز حراسته. وقفت بالقرب من البوابة , ولم يمر بالقرب مني أي شخص عسكري , أو حتى جندي من الجيش . وكما يبدو لم يكن في الشارع أي شخص يرتدي الملابس العسكرية . وفجأة ظهرت في الجانب الآخر من الشارع مجموعة من المعاطف السوداء .فرحت , وظننت أصحابها عسكريين , لكنني عندما عبرت الشارع مسرعًا لم أجدهم كذلك , وإنما طلاب صغار في مدرسة صناعية . ومر رجل سكة حديد طويل القامة يرتدي معطفًا جميلًا جدًا , مزينًا بعلامة خضراء . لكن هل كان من الممكن لمثل هذا الرجل أن يقف ويستمع لي أردت أن أعود للحديقة , وجهي مثل قفاي . لكني فجاة , لمحت عند الناصية على محطة المترو ” كاب ” أحد القادة بإطار أحمر . ويبدو أنني لم أفرح قط في حياتي مثل فرحي في تلك اللحظة . واندفعت نحوه بكل قوتي . لكنني مع الأسف لم الحق به , لأنه كان أسرع مني في الصعود إلى ” المترو “. وقفت على المحطة, إلى أن أقبل ضابط شاب , برتبة ملازم , وكان يشق طريقه وسط الجمهور المتجمع حول باب العربة . وأسرعت إليه , ممسكًا بذراعه , وصحت: - رفيقي الضابط . . دقيقة واحدة . . انتظر . . رفيقي الضابط !
التفت إلي ناظرًا باستغراب , وقال: - ماذا حدث ؟
- هل تريد ان تعرف ماذا حدث ؟
هنا , في حديقة , بالقرب من ” كشك ” حجري , يجلس طفل صغير منذ ساعات . . إنه لا يستطيع الخروج . فقد أعطى وعد شرف ألا ينصرف . . إنه صغير جدًا . . إنه يبكي . . إنها قصة سوف أحكيها لك بلا شك
قطب الضابط عينيه , ورنا إليَ بدهشة أكبر . ربما ظن هو أيضًا أنني مريض , وأن في رأسي خبالًا . . لكنه قال: - إنني هنا ذاهب في عمل ؟
ولكن ” المترو ” كان قد فاته , فنظر إليً بغيظ , وانتهزت الفرصة فشرحت له القصة بوضوح أكثر , وعندما فهمها لم يعد يفكر , وعلى الفور قال : - فلنذهب . . لنذهب بالطبع . . لماذا لم تقل هذا لي مباشرة ؟ !
وعندما توجهنا إلى الحديقة , كان الحارس قد أغلق البوابة تمامًا . وطلبت منه الانتظار عدة دقائق , وقلت له : إن في الحديقة صبيًا باقيًا , واندفعنا – الضابط وأنا – إلى داخل الحديقة .
وفي الظلام , اكتشفنا بصعوبة البيت الصغير الأبيض , كان الصبي واقفًا في مكانه بالضبط , حيث تركته . ومرة أخرى كان يبكي بهدوء شديد . ناديته , ففرح جدًا , إلى حد أنه صرخ من الفرح . أما أنا فقلت: - ها هو ذا . . قد أحضرت قائدًا .
اعتدل الصبي في وقفته , ولكي يرى القائد بصورة أفضل , مد جسمه الصغير لأعلى عدة سنتيمترات . . وقال القائد: - أيها الرفيق الحارس . . أي رتبة تحملها ؟
- أنا عريف .
- رفيقي العريف . . آمرك بترك مركز حراستك , الذي عهد به إليك .
سكت الصبي , وحك أنفه , ثم قال: - وما هي رتبتك انت . فأنا لا أرى تمامًا عدد النجوم التي على كتفك ؟
- أنا ملازم وهي نجمة ولكنها تسطع بالقوة ياعريف .
عندئذ رفع الصبي يده مؤديًا التحية العسكرية , قائلًا: - حاضر – حضرة الضابط – بالأمر أترك نقطة الحراسة .
قال هذا بصوت مسموع , وبمهارة بالغة إلى حد أننا لم نتمالك أنفسنا وانفجرنا في الضحك . وابتسم الصبي بسرور وارتياح .
عدنا إلى باب الحديقة المغلق , وانتظرنا عدة لحظات , قبل أن يفتح الحارس لنا القفل المغلق .
ومد الضابط يده محييًا: - ممتاز يا رفيقي العريف . منك يخرج المحارب الحقيقي . . إلى اللقاء !
وتمتم الصبي ببعض كلمات , قائلًا:
” إلى اللقاء
التعليقات مغلقة.