وقائع الخريف الدامي …بقلم فولاذ عبد الله الأنور
ها هنا بين نارَينِ: شرقاً وغرباً
تموت العصافيرُ،
والقُبّراتُ تطيرُ إلى البحرِ،
لكنها فجأةً
تتشظّى وتسقطُ دون الفِرارِ ،
قبورٌ جماعيةٌ للصغارِ علىٰ بعضها البعض ِ
للنّسوةِ اللاهياتِ،
لأبناءِ صاحبةِ الأرضِ،
منذ أتى نسلُ “يعقوبَ” مِن أرضِ “حارانَ”،
عبر طريقِ القوافلِ ما بين “أورَ”
و”كنعانَ”،
منذ سُلالةِ “داوُدَ”
واستوطنوا الأرضَ ،
واستلبوا أهلها ومراعي بهائمِهم
وخزائنَ أحواشِهم
وأقاموا بها !
….
أرضُ “كنعانَ” : أرضُ “فلسطينَ” ،
كانت، وسوف تكونُ ،
فهل سيغيّر هذي التواريخَ ،
هذا الجنونُ ؟!
. . . .
ها هنا ،
في الصباح الخريفيّ ،
والغيم يدنو رويداً من الأرضِ ،
لا القلبُ ،
لا هبَّةُ الشِّعرِ ،
لا الشرقُ والغربُ ،
لا لغةُ العالمِ المتمدّنِ ،
لا شيءَ يعدلُ دمعةَ طفلٍ صغيرٍ ،
يرى نفسه فجأةً ،
واقفاً فوق أنقاضِ منزلِهِ يتهجّى الكلامْ
يتلهى عن الخبز في يدِهِ ،
بالنداءِ علىٰ أُمّهِ في رديمِ الحطامْ.
ليس مِن وعيهِ أن يحدّدَ في فهمِهِ ،
سببَ الهَولِ والويلِ من حولِهِ ،
واندلاعِ الدمارْ .
ليس مِن وعيِهِ أن يُفرّقَ في مشهد الحربِ ،
ما بين مجدٍ ، وعارْ .
هو لا يبتغي غيرَ ما وهَبَ اللهُ عينيهِ ،
مِن بهجة الأرضِ : وجه أُمومتِهِ ،
وانعطاف عُمومتِهِ نحوَهُ ،
والتفاف الصغارْ .
أُمُّهُ ، أين هِيْ ؟
كان يلهو ،
على بُعد بابَينِ من صوتها ،
ويداعبُ دُميتَهُ ليؤاكلَها ،
ويهدهدها تحت نافذةٍ حفِظَت لهوَهُ ،
وستارٍ ،
فأين مضَت ،
يتلفّتُ مِن حولِهِ ،
يتبحَّثُ عن ذيلِ جلبابها ،
أو صدى خطوِها ، أو حفيفِ الإشارة .
يتشوّفُ ملمحهاٰ ،
في هجيجِ الدواخينِ فوّارةً ،
وضجيجِ الطواحينِ تمضغ ملعبَهُ وديارَهُ ،
والقومُ ، يلهيهمُ الموتُ عنهُ ،
وتَفجُرُهُم راجماتُ الإغارةِ ،
والدُّورُ من حولِهِ تتحطّمُ ،
والكاميرا تتقدَّمُ ،
تكتبُ في شاشةِ العَرضِ :
“غزةُ” تحت الحصارْ !
. . . .
ها هنا في النهارِ الخريفيّ ،
في العالم المُتحضّرِ ،
يفتقدُ الكونُ حكمتَهُ الأزليةَ ،
في سُنَنِ الحربِ ،
يهتزّ حبلُ الخليقةِ ما بينَ :
شرقٍ وغربٍ ،
يميلُ مع الجَورِ والقبحِ ،
والطفلُ مسترسلُ الجُرحِ ،
لا يتململُ ،
والأرضُ من تحتِهِ تتخلخلُ ،
يا لَلجمال الأليمِ ،
ينادي على أُمّهِ ،
يتعلّلُ منهاٰ برائحةِ الحضنِ فوّاحةً ،
في شِواءٍ ونارْ .
يتبحّثُ عن وجهِها في أتُونِ الدُّخَانِ ،
وعن صوتها في ارتطامِ الحجارةِ ،
عن يدها ، ربما عَلِقَت ،
تحت نافذةٍ سقطَت فوقها أو جدارٍ ،
ـ فأي الدواخينِ حولَكَ يا أيها الطفلُ ،
ينشقُّ عن وجهِ أمكَ ،
تجري إليكَ ،
وتخطف زندَيكَ في صدرها ،
وتطيرُ إلى البحرِ ،
أي الطواحينُ عندكَ يمكن أن تتوقّفَ ،
كي تدركَ الفرقَ عند الخسارةِ ،
ما بين زحف الجهادِ ، وحربِ الدعارة.
. . . .
ها هنا بين نارَينِ :
شرقاً وغرباً تموتُ العوائلُ ،
والأمهاتُ العَطاشىٰ،
يموت المُسنونَ ، والأبرياءُ ،
يغيمُ النهارُ السماويّ فوق المكانِ ،
وتجري النساءُ من القصفِ ، والخسفِ ،
يجري الصغار مِن الخسفِ ،
يجري الكبارُ ،
وفي البعدِ يسقطُ تمثال “حرّيتي”
في المحيط البعيدِ ،
الشعارُ الكذوبُ لوجهِ الحضارةِ ،
يسقطُ ،
والكاميرا تستديرُ وتصعدُ ،
في حيّزٍ شاسعٍ في الفضاءِ المديدِ ،
وتكتب بالأحمرِ المُتجعّد فوق انتفاخ الغمامةِ ،
: غزةُ تغرق تحت الدخانْ.
. . . .
في المساء الخريفيِّ ،
خلف الشريطِ الحدوديّ ،
والنارُ تعلو وتسفلُ ،
والطفلُ يدنو ويجفُلُ ،
والصحفُ العربيةُ في الشاشة الجانبيةِ ،
تجري بخطٍّ عريضٍ ،
تُدينُ الهجومَ بغير التفاوضِ ،
حتى بيانٍ جديدٍ ،
جديدْ ؟
العثورُ علىٰ طفلةٍ تتنفّس بالموتِ ، تحت ركامِ الغبارِ ، وفي يدها “الشنطةُ” المدرسية تنجو ، مِن القصفِ ، والواجب المدرسيّ يرتّبُ أحلامَهُ بالكتابةِ ، نحوَراكتمالِ الإجابةِ : يا وطني ، كم أحبكَ ، “غزةُ” في القلبِ ، والقلبُ في رئة البيتِ ، والبيتُ أكوام طوبٍ ، وأطلالُ دارٍ ، ولاٰ يتوقف قصفِ الديارِ ،
وفي صفحة الفنِّ :
“فيروز” تنهضُ من نومهاٰ، وتطلُّ على البحرِ ، تبحث في حِرزهاٰ عن سلاحٍ جديدٍ ، فلاٰ يتلاقى انسجامُ الحرارة فيهاٰ ، بوقعِ الحديدِ ، فتهتفُ : ياٰ وطني ، ردّني ، ردّني لبلاااادي.
. . . .
في الهزيع الأخيرِ مِن الليلِ ،
والكاميراٰ تترجّلُ عن حامل الضوءِِ،
والصوتِ ،
تنأى عن الموتِ ،
عن مشهدِ الطفل تتركُه وحدَهُ واقفاً ،
فوق أنقاضِ منزلِهِ ،
يتلقى التفرّجَ من كوكَبِ الأرضِ ،
في شاشةِ العَرضِ ،
ـ يا أيها الطفلُ لاٰ تتنظّر قدومَ الإغاثةِ ،
إن الصناديدَ منهمكون بوضع البيانِ الجديدْ !
فاصلٌ لانقطاع الإضاءةِ ،
مِن غير وصلٍ لأرضِ النبيّينَ ،
لا بأسَ ، فالطفلُ في كَنفِ اللـهِ ،
للطفل ربٌّ ، وللبيتِ ربٌّ :
تحطّ الملائكُ مِن فوقِ عليائها،
تتنزّلُ للشهداءِ العصافيرِ،
تأخذهم في حِماها إلى مُرتقى الأنبياءِ،
وتصعدُ بين الدّخَانِ،
وبين الغيومِ ، وبين اكتظاظِ الغيومِ ،
تحلّق فوق المدائنِ والوطنِ،
المستعارِ،
وتتركُه وحدَهُ،
واقفاً فوق أنقاض منزلهِ،
يتبحّث عن أُمّه في رديم الحطامْ .
ـ نسيتك الأمومةُ وحدكَ ، معذورةً،
أخطأَتكَ القنابلُ من جهةِ الموتِ والغدرِ مقهورةً،
تركَتكَ الملائك يا سيدي الطفلُ وحدكَ،
مأمورةً،
ربما لتطلّ عليناٰ غداً بيقين الرسالاتِ ،
مِن مثل هذا المكانْ .
“حجَرٌ” في يديكَ، و “نُبلةُ قَنصٍ” ،
و”كُوفيةٌ” حولَ وجهكَ فوق “جبال الخليلِ”
تُطوّحُ مِقلاعَك الأزليَّ ،
بماٰ فيه مِن وازعٍ قُدُسيٍّ ،
وتقذف من “بئر سبعٍ” إلى “بيت إيلْ”
تدير القِصاص جنوباً من “النقبِ” ،
حتىٰ هضابِ “الجليلْ”
ـ ضميرَك ياٰ سيدي الطفلُ، كن رجلاً في غدٍ
فالضمائرُ مثلومةٌ عندناٰ
والرجالُ قليلْ
التعليقات مغلقة.