وقفة في حياة “سميه بنت الخياط”… محمد الدكرورى
وقفه فى حياة سميه بنت الخياط
بقلم / محمــــد الدكـــرورى
هى إمرأة من طراز نادر في الثبات على الحق والشجاعة واليقين، عاشت في زمانها عمرا قصيرا ولكنه كلن مليئًا بالبطولات والتضحية والفداء في سبيل دين الله عز وجل ودعوته الناشئة، ولهذا حملتها صفحات السيرة والتاريخ إلينا ملهمة دائمة للمرأة المسلمة في كل زمان ومكان، ومثالا ناصعا على الانتصار بالله، والاعتزاز بالانتساب إلى دينه، تهون عليها الحياة ولا يهون دينها .
وصحابيتنا اليوم لا تملك حسبًا ولا نسبًا ولا جمالًا، ليست لها في قريش مكانة أو جاه، هي باختصار أَمَة، عاشت أَمَة وماتت وهي أَمَة تحت العبودية الطاغية ، وشهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لهذه العبدة الضعيفة بأنها من أهل الجنة، فأية عظمة تحملها سيرتها، هل هناك أعظم من أن يتحول العبد الضعيف إلى مدرسة في الصمود والإباء والتحدي، بعضكم في شوق لمعرفة هذه الصحابية، ولربما عرفها الكثيرون فقالوا إنها سمية بنت خياط.
إنها السيدة سمية بنت خياط رضي الله عنها، تلك الصحابية الجليلة، وأول شهيدة في الإسلام ، وزوجة الصحابي ياسر بن عامر وأم الصحابي عمار بن ياسر، أسلمت في مكة، وكانت أحد السبعة الذين أظهروا إسلامهم فيها، وقتلها أبو جهل بطعنة بحربة في موطن العفة وكانت السيدة سمية ممن بذلوا أرواحهم لإعلاء كلمة الله عز وجل .
وهي من المبايعات الصابرات الخيرات اللاتي احتملن الأذى في ذات الله، وكانت من الأولين الذين دخلوا الإسلام، فهي سابع سبعة ممن اعتنقوا الإسلام بمكة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وبلال وصهيب وخباب وعمار ابنها رضي الله عنهم.
ولسمية الخياط صورة مشرقة في البطولة، ووجه صلد على الهوان، وروح عظيمة لا تنكسر أمام الابتلاء والاضطهاد، حيث لم يكن لها أحد يمنعها أو يحميها من المشركين؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم، منعه عمه، وأبو بكر الصديق منعه قومه، أما هي والباقون فقد ذاقوا أصناف العذاب وألبسوا الدروع الحديدية وصهروا تحت لهيب الشمس الحارقة.
وعندما يذكر الكثيرون هذا الاسم يذكرونه بإكبار وشفقة، مصدر إكبارهم هو القوة والثبات التي بثها الإسلام في نفسها فحررها من الانقياد والخضوع إلا لله سبحانه وتعالى وللحق الذي أمر به، وسما بها إلى مرتبة تفوق مراتب الأغنياء والأسياد، مرتبة ليس فيها إلا التقوى معيارًا للتفاضل.
ولم يكن العبيد والإيماء والمساكين والفقراء يشعرون بالكرامة قبل مجيء الإسلام، ولم يكونوا يعاملون بالعدالة والرحمة، بل كان يُنظر إليهم باشمئزاز واحتقار ويعاملون بظلم واضطهاد، وعندما حلت على جزيرة العرب رياح الخير مع مجيء النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، فشم هؤلاء المستضعفون من دينه الجديد رائحة العدل والكرامة، وسارعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وحملوا لواء الإسلام وفدوه بأرواحهم، ولم يخب ظن هؤلاء المستضعفون في الدين الذي آمنوا به، فلقد طبق المسلمون تعاليم دينهم على الغني والفقير، على القوي والضعيف، حين سرقت المرأة المخزومية وتوسط أسامة بن زيد حب النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع لها عنده، غضب النبي صلى الله عليه وسلم، أغضبه أن يشفع أسامة في حد من حدود الله .
وقال له: “إنما أهلك من كان قبلكم إنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ” رواه مسلم
إذن عندما تذكر سمية يشعر كثيرون بالإكبار، يشوب هذا الإكبار شيء من الحزن والألم والشفقة، لماذا؟ لأن اسم سمية وياسر وبلال وصهيب وخباب وغير هؤلاء يعيد إلى أذهاننا ألوان الاضطهاد وصنوف العذاب التي صبتها قريش عليهم وعلى أمثالهم لأنهم آمنوا بالإسلام وبنبي الإسلام.
كانت السيدة سمية بنت خياط أمة لأبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وتزوجت من حليفه ياسر ابن عامر بن مالك بن كنانه بن قيس العنسي، وكان ياسر عربياً قحطانياً مذحجيًا من بني عنس، أتى إلى مكة هو وأخويه الحارث والمالك طلباً في أخيهما الرابع عبد الله، فرجع الحارث والمالك إلى اليمن وبقي هو في مكة.
وياسر بن عامر، وهو رجل يمني قدم إلى مكة ليبحث له عن أخ فقده منذ سنوات فطاب له العيش في مكة فاستقر فيها، لم يكن من الممكن لشخص غريب عن مكة أن يعيش فيها دون أن يدخل في جوار أحد من سادتها ليحميه ويرعاه، فدخل ياسر في جوار رجل يسمى بأبي حذيفة بن المغيرة، وزوجة أبو حذيفة لها أمة تدعى سمية بنت خياط.
ولدت له عمارًا وعبد الله والحريث الذي مات قبل البعثة، أخلص ياسر وعائلته لأبو حذيفة، فأحبه أبو حذيفة وأعتق ولدهم عمار بن ياسر، بعد موت أبي حذيفة انتقلت سمية وولدها عبد الله إلى ورثته من بني مخزوم ، فلما جاء الإسلام أسلم ياسر وأخوه عبد الله وسمية وعمار.
وحين أسلم آل ياسر عذبهم المشركون أشد العذاب من أجل اتخاذهم الإسلام ديناً، وصبروا على الأذى والحرمان الذي لاقوه من قومهم، فقد ملأ قلوبهم بنور الله عز وجل ، فعن عمار أن مشركي بنو خزامة عذبوه عذاباً شديداً، فاضطر عمار لإخفاء إيمانه عن المشركين وإظهار الكفر، وقد أنزلت آية في شأن عمار في قوله عز وجل: “مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) سورة النحل ، رواه الطبري .
وحينما يأتيه الرسول صلى الله عليه وسلم ويسأله: ما وراءك؟ فيقول عمار وهو يبكي: شر يا رسول الله ، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان ، قال: فإن عادوا لك فعد لهم” رواه الطبري .
وفي مكة سمع عمار بن ياسر عن محمد بن عبد الله وعن دينه الجديد فأعجبه ذلك الدين الذي يسوي بين كل الناس في الإنسانية والكرامة والعدالة، فتسلل خفية حتى دخل دار الأرقم، وهناك أعلن إسلامه وشهد أن لا إلا الله وأن محمد رسول الله، وعاد إلى بيته فرحًا مستبشرًا، سألته أمه سمية: ما لي أراك مسرورًا يا عمار، شرح عمار لأمه ما عرفه عن الإسلام وتلا عليها قول الله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات .
فقفزت سمية من مجلسها واستبشرت بانبعاث العدالة والكرامة والخلاص من العبودية، دمعت عيناها وهي تتذكر صورة سيدها وهو يلقي إليها فتات الخبز وبقايا الطعام، ورنت في أذنها كلماته القاسية وأوامره الفظة، تذكرت الليالي التي قضتها وهي تبكي وتدعو بالفرج القريب لعله جاء، صاحت بلوعة خذني إليه يا عمار، خذني لرسول الله.
فاستقبل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم سمية وابنها بالحفاوة والتكريم ولقنها كلمة التوحيد وسمعها وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، خرجت من مجلس رسول الله منشرحة الصدر، وسكن قلبها شعور بالقوة والأمل، شعور بالعزة لم تذق طعمه من قبل، استغرب سيدها للانقلاب المفاجئ الذي اعتراها، لم تعد سمية تلك العبدة الضعيفة التي تطأطئ رأسها خوفًا من جبروته، لم تعد تبكي بصمت عندما يشتمها، بات يقلقه ذلك البريق المضيء الذي يلمع في عينيها، شعر به كأنه أسهم من نار تطير نحوه .
وطبعًا لم يكن يعرف أنها أسلمت، مضت سنة تقريبًا على إسلام سمية وزوجها ياسر وولديها عمار وعبد الله، واستطاعوا خلال تلك السنة أن يخفوا إسلامهم، ولكن إلى متى؟ لا يمكن إلا أن يتنفس الصبح بعد العسعسة، وعندما قال الله تعالى لرسوله: ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) أظهرت إسلامها لم تعبأ بقريش ولا بجبروت قريش.
وكانت سمية من ضمن قافلة العبيد والضعفاء المتألبين على طغيان الأسياد، فأثار هذا شراسة بني مخزوم، سمية التي لا تملك حولًا ولا قوة تريد التحدي وتقوى على الصمود، سنرى وسترى، سنجعلها عبرة لمن يعتبر، هكذا قالوا، صاروا يخرجونها إلى رمال مكة التي تغلي كلهب النار، يخرجونها كل يوم، ويبدؤن في صب صنوف الأذى والاضطهاد عليها وعلى زوجها ياسر وابنها عمار، جلدًا بالسياط، تحريق بالنيران، تعرية وجر على الرمال، تجويع وتعطيش، تغريق بالماء .
وكانوا يتلذذون بالنظر إلى جروحهم ودماءهم، ويستعذبون أصواتهم وآهاتهم وآلامهم، كانوا يتناوبون على تعذيب هؤلاء الضعاف، كلما تعب جلاد تولى الضرب غيره، وغيره الكثير، فقد نصب بنو مخزوم خباء ليستريحوا فيه من أجساد المعذبين الذي تتلقى الضرب دون خوف ولا تراجع.
وها هي سمية والأغلال في يديها وقدميها، وأحد رجال بني مخزوم يهوي بالسوط على جسدها النحيل الواهي فيأكل السوط بعض لحمها، ويشرب شيئًا من دمها، بعد أن ضربها وضربه رمى السوط من يده وهو يعض على شفته غيظًا وحنقًا والعرق يكسوه من رأسه إلى قدميه، نظر إليها بحقد واستغراب ما تزال على حالها، تنظر إلى السماء بطمأنينة وقد افتر ثغرها عن ابتسامة عجيبة ورغم الآلام والجراح والدماء المتساقطة .
فكان قلبه يخفق بشدة وقد هزه العطش ، وهزه التعب، لم يستطع عقله المصدوم أن يفسر ما يجري، كيف تملك هذه الأمة الحقيرة كل تلك القوة رغم ضعفها وهوانها، لماذا يشعر هو بالخوف من نظراتها إليه أليس هو السيد؟ أليس هو من يمسك بالسوط ويضرب ويعذب، لماذا يخاف إذن؟ عاد الهوينا إلى أصحابه وسلم السوط إلى رجل آخر ليكمل المهمة .
لم يعد أولئك الجلادون يريدون من سمية سوى أن تكفر بدين محمد ودينه ولو بلسانها، وعندها سوف يطلقون سراحها ويتخلصوا من الآلام ومن العذاب الذي كان يضنيهم أكثر مما يضنيها، كانوا ينظرون إلى شفتيها المرتجفتين وينتظرون أن تنطق بكلمة تريحها وتريحهم
ولكن تمر الأيام والأيام وتبقى سمية واقفة تحت أسياطهم مطمئنة الجنان، ثابتة الفؤاد، تبقى الخيبة نصيب العتاة القساة غلاظ الأكباد، كانوا يشعرون بالهزيمة أمام تلك العبدة الضعيفة، وأمام زوجها ياسر وولديها عبد الله وعمار اليافعين الفتيين الذين يخضعان للعذاب مثل أبيهما وأمهما، يخضعان لجميع أنواع العذاب.
ولكن ذات يوم بكت سمية تحت ضربات السياط على غير عادتها، لم يصدق من كان يضربها أنها تبكي، هذه أول مرة يرى فيها دموعها منهمرة، لاشك كان يغيظه أن يراها تبتلع تلك الدموع مع آلامها وهي تنظر إليه نظرة تحد ومقاومة، إذن استسلمت سمية، هكذا قال وهكذا تخيل، هل تصدقون ذلك ، هل استسلمت سمية حقًا؟
هل أنهكها العذاب فقررت النقوص؟ لماذا بكت إذن؟ بكت سمية تحت العذاب لأول مرة، وظن سيدها أنها تبكي ألمًا أو انهيارًا، فاقترب منها وصاح بها بغلظة، أيتها العبدة الحقيرة أسمعينا، سبي محمدًا ودين محمد، فلم تجبه سمية بشيء، لأنها لم تسمعه أصلًا، فقد كانت عيناها على ابنها عمار.
وكان عمار يصرخ من شدة الألم بعد أن تفنن معذبوه في تعذيبه بالحرق، بالجلد، بالجر على الرمال الملتهبة وهو صامد، أخيرًا أحضروا دلوا كبيرا مملوءًا بالماء، وغمسوا رأسه ليخنقوه ثم رفعوه قبل الموت بقليل وقالوا له، سب محمدًا، قل في اللات والعزى خيرًا، أبى عمار فكرر الجلادون خنقه مرات ومرات .
فلم يعد يستطع الصمود، فقد كان كل ما يفعلونه به أقصى من الموت، لم تصدق سمية ما سمعته أذناها، عمار ابنها يسب النبي ويمتدح اللات والعزى، صاحت بلوعة عمار إياك والكفر يا عمار، إياك، فك المشركون قيود عمار، وأطلقوا سراحه، فأطلق عمار لساقيه العنان وهو يبكي بحرقة وألم .
والسيدة سمية رضي الله عنها ظلت مع الفئة المؤمنة، يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة، وكان رسول الله يمر بهم ويدعو الله عز وجل ، أن يجعل مثواهم الجنة، وأن يجزيهم خير الجزاء، وتبقى سمية تحت العذاب ومحاولات مستميتة لردها عن دينها، لكن رحمة الله بها أمكنت الإيمان من قلبها، فهانت روحها، ولم يهن دينها .
في غمرة العذاب كان يداعبها شوق إلى الجنة، فمتى تنال المنى، وعلى يد من ستنال الشهادة، كتب الله لها ذلك على يدي أبي جهل الذي لم يصدق أن تجابهه أمة يراها ضعيفة حقيرة، فثارت ثائرته ، وإذا بالفاجر أبي جهل يرميها بحربة في موطن عفتها، ولم يرحم ضعفها كإنسان، ولم يرحم ضعفها كامرأة، كما لم يرحم ضعفها ولا عجزها كامرأة مسنة لا تقوى على العذاب .
والسيدة سمية نالت الشهادة بعد أن طعنها أبو جهل بحربته، لتكون أول شهيدة في الإسلام، لتكون سيرتها رسالة لبنات جنسها على مر الأيام والسنين، للشد على دينهن بكل ما يمكن، فلا يوجد أغلى من الدين.
لم تنته قصة سمية باستشهادها، فبقي الجزء الآخر المتعلق بقاتلها أبي جهل لعنه الله، الذي لقي جزاءه في غزوة بدر الكبرى، حين طعنه شبلا الإسلام معاذ بن الحارث، وأخوه معوذ بن الحارث، ولكنه لم يمت على أثر طعناتهما بسبب ضخامة جسده، لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة على يد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي أجهز عليه ، ونادى النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر، بعد مقتل عدو الله أبي جهل: “قتل الله قاتل أمك يا عمار” رواه ابن سعد .
التعليقات مغلقة.