وقفة مع ذو الكفل عليه السلام … بقلم محمـــد الدكـــروري
ذو الكفل عليه السلام هو نبى من أنبياء بني إسرائيل، وسمي بذلك لأنه تكفل للنبي الذي كان في زمانه أن يخلفه في قومه إذا مت ، وتكفل له في قيام الليل وصوم النهار وألا يغضب في القضاء، وكان يصلي كل يوم مائة صلاة ويقضي بالعدل بين قومه ، والذي عليه أكثر المفسرين أن ذا الكفل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجمعين .
ويقال أن ذو الكفل هو ابن أيوب عليه السلام، واسمه الأصلي بشر، وقد بعثه الله بعد النبي أيوب وسماه ذو الكفل، لأنه قام بتكفل بعض الطاعات، لكن بعض العلماء اختلفوا فيما بينهم على نبوته، فقالوا بل مجرد رجل صالح من بني إسرائيل، ولكن ابن كثير رجّح نبوته لأن الله تعالى ذكره مع الأنبياء كما جاء في القرآن الكريم .
ويقال أنه بدأت قصة ذي الكفل عليه السلام حينما کبر نبي الله أليسع وقال في نفسه: “لو آني استخلفت رجلا علی الناس فانظر کیف یحکم ويعدل بین الناس فإن کان عادلا رحیما جعلته خلیفة علی الناس من بعدي .
فقام وجمع الناس وقال: “من يضمن لى أن يفعل ثلاثة أشیاء استخلفه من بعدی ، قال الناس : وما هي ؟ فقال أليسع عليه السلام : يصوم النهار ويقوم الليل ويعدل فلا يغضب ، فقام رجال بسیط وهو ذو الكفل، فقال : أنا ، فقال اليسع عليه السلام : أنت تصوم النهار، وتقوم الليل ، ولا تغضب؟
قال ذو الكفل: نعم، قال : فردهم ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الأخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا ، فاستخلفه فسماه الله ذا الكفل، لانه تكفل بأمر فوفی به، فكان بعد ذلك من الأنبياء الذين أوحى الله إليهم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: “إن نبياً من أنبياء بني إسرائيل، آتاه الله الملك والنبوة، ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل حتى يصبح، ويصوم بالنهار فلا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب، فادفع ملكك إليه .
فقام ذلك النبي في بني إسرائيل وأخبرهم بذلك، فقام شاب وقال: أنا أتكفل لك بهذا ، فقال في القوم: من هو أكبر منك فاقعد، ثم صاح الثانية والثالثة، فقام الرجل، وقال: أتكفل لك بهذه الثلاث، فدفع إليه ملكه، ووفَّى بما ضمن .
وقال الرازي: ” والأكثرون أنه من الأنبياء عليهم السلام” ، وقال ابن كثير: ” وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قُرن مع الأنبياء إلا وهو نبي” وقال الآلوسي: “وظاهر نظم ذي الكفل في سلك الأنبياء عليهم السلام أنه منهم، وهو الذي ذهب إليه الأكثر”.
وقال ابن عاشور: “وأما ذو الكفل فهو نبي، اُختلف في تعيينه، فقيل: هو إلياس المسمى في كتب اليهود (إيليا)، وقيل: هو خليفة اليسع في نبوة بني إسرائيل ، والظاهر أنه (عُوبديا) الذي له كتاب من كُتب أنبياء اليهود، وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثني عشر، وتعرف بكتب الأنبياء الصغار”.
وذهب آخرون إلى أن ذا الكفل ليس بنبي، بل كان رجلاً صالحاً، وقد روي عن مجاهد في قوله سبحانه: ( وذا الكفل )، قال: رجل صالح غير نبي، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمهم له، ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فسمي: ذا الكفل ، ونقل القرطبي في هذا الصدد أن الذي عليه الجمهور أنه ليس بنبي، وهذا يخالف ما نُقل عن أكثر المفسرين.
وقد توقف شيخ المفسرين الطبري في هذا الأمر، فلم يقطع بنبوة ذي الكفل، ولم يقطع بكونه غير نبي ، وقد استدل الرازي على كون ذي الكفل نبيًّا بأدلة ثلاثة، هي: الأول: أن ذا الكفل يحتمل أن يكون لقباً، وأن يكون اسماً، والأقرب أن يكون مفيداً ، لأن الاسم إذا أمكن حمله على ما يفيد، فهو أولى من اللقب.
وإذا ثبت هذا، فيقال: (الكفل) هو النصيب، قال تعالى: ( يؤتكم كفلين من رحمته ) والظاهر أن الله تعالى إنما سماه بذلك على سبيل التعظيم، فوجب أن يكون ذلك الكفل، هو كفل الثواب، فهو إنما سمي بذلك ، لأن عمله وثواب عمله، كان ضعف عمل غيره، وضعف ثواب غيره، ولقد كان في زمنه أنبياء، ومن ليس بنبي لا يكون أفضل من الأنبياء.
والثاني: أنه تعالى قرن ذكره بذكر إسماعيل وإدريس، والغرض ذِكْرُ الفضلاء من عباده ، ليُتأسى بهم، وذلك يدل على نبوته ، والثالث: أن السورة ملقبة بسورة الأنبياء، فكل من ذكره الله تعالى فيها فهو نبي ، ولم يتعرض القرآن الكريم لقصة هذا النبي من قريب أو بعيد، بل غاية ما فعل أن ذكره ضِمْن عدد من الأنبياء، وصفهم بالصابرين والأخيار.
وفى يوم من الأيام ، أراد إبليس أن يوقع سيدنا ذو الكفل في الخطأ، فأمر الشياطين قائلاً ” عليكم بذي الكفل، أوقعوه في الزلل” “، فعندما عجزوا عن ذلك، قال لهم ابليس : دعوني وإياه ، فجاءه إبليس في صورة شيخ عجوز فقير، بينما كان ذو الكفل عليه السلام يأخذ مضجعة للقيلولة لينام، فهو لم يكن ينام الليل تعبداً لله عز وجل، وكان يقضي في الناس حتي الظهر، ثم يأتي بعد ذلك ليأخذ قيلولة في منزلة، ثم يعود ليقضي بين الناس إلي الليل، وهكذا كانت حياته .
وأراد إبليس ان يثير غضب ذي الكفل وبذلك يكون قد أوقعه في الخطأ، فطرق بابه ساعة قيلولته ففتح ذو الكفل الباب وسأل : من أنت، فقال إبليس : أنا عجوز كبير في السن، وأتيتك في حاجة، ففتح ذو الكفل الباب وبدأ يستمع إلي الشيخ وهو يحدثه عنه خصومة بينه وبين قومه الذين ظلموه، وأخذ يماطل كثيراص في الحديث، حتي حان موعد مجلس ذو الكفل بين الناس، وفات وقت قيلولته وراحته ولم ينم، فقال ذو الكفل : “عندما أذهب لمجلس القضاء، فأتني وأنا آخذ لك حققك”.
خرج ذو الكفل لمجلسه ولكن الشيخ لم يحضر المجلس، وعقد المجلس من جديد في اليوم التالي ولم يحضر الشيخ ايضاً، وعندما عاد ذو الكفل إلي منزله ليأخذ القيلوله جاء الشيخ مرة أخري، فقال له ذو الكفل : ألم أقل لك أن تأتني في مجلس القضاء ؟ فقال إبليس : إنهم قوم خبثاء وإن عرفوا أنك جالس في مجلسك يقولون لي نحن نعطيك حقك، وبمجرد أن تقوم من مجلسك جحدوا حقي من جديد، فقال ذو الكفل ” فانطلق هذه الساعة فإذا ذهبت مجلس القضاء فأتني ” .
ومرة أخري فاتت قيلولة ذو الكفل عليه السلام وذهب إلي المجلس ولم يأتي الشيخ، وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله ” لا تدعنَّ أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق عليّ النعاس ” ، وأخذ ذو الكفل مضجعة لينام، فأتي الشيخ فمنعه الرجل من الدخول، فقال إبليس ” لقد أتيت أمس وذكرت له أمري وإني أريده الآن “
فقالوا له : لقد أمرنا ألا ندع أحد يقربه، فلما زاد عناد الرجل وتصميمة علي ألا يدعه يدخل، نظر فوجد ثقب في المنزل فدخل منه، ودق الباب من الداخل، فاستيقظ ذو الكفل، وقال للرجل : ألم آمرك ألا تدع أحد يدخل علي او يقترب من الباب حتي انام، فقال الرجل : والله لم ندع أحداً يقترب، فانظر من أين دخل” .
قام ذو الكفل فوجد الباب مغلق كما أغلقه، ولم يكن هناك أى منفذ لدخول الرجل إلي المنزل فعرف حينها أنه ابليس، فقال : “ما أنت إلا عدو الله إبليس”، فقال ابليس : نعم، فسأله ذو الكفل عن سبب فعله لكل هذا، فقال ابليس : “لقد سلطت عليك الشياطين لتوقعك في الزلل فلم تقدر، فأردت أن أثير غضبك وأجعل صبرك ينفذ فتقع في الخطأ” وهكذا لم يستطع إبليس تغيير شيء من صفات ذو الكفل الذي ظل صابراً حليماً لا يغضب، فسماه الله ذو الكفل لأنه تكفل بأمر فأوفى به.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين ، حتى عدَّ سبع مرات ، ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: ” كان الكفل من بني إسرائيل، لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً، على أن يطأها، فلما أراد أن يفعل، أرعدت، وبكت .
فقال: ما يبكيك؟ أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملني عليه الحاجة. قال: فتفعلين هذا، ولم تفعليه قط؟ فتركها، وقال لها: اذهبي فالدنانير لك. ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبداً ، فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: قد غفر الله للكفل ” . رواه احمد
ويقال أن ذو الكفل مات وهو في سن الخامسة والسبعين من عمره، كما ويقال أن قبره يتواجد في قرية كفل حارس في مدينة نابلس في فلسطين ، وأما القبر المنسوب إلى ذي الكفل ببلاد العراق : فهذا لا يعلم له أصل صحيح ، ولا ذكر أحد من أهل العلم له أصلا ، ولا سندا ، وإنما ذلك كله من عمل الجهلة الذين يفتنون بأصحاب القبور ، ويتوسلون بهم إلى ربهم ، وربما عبدوهم من دون الله ، فيسألونهم ويستغيثون بهم وينذرون لهم .
التعليقات مغلقة.