وقفه مع غزوة أحد ” الجزء الثانى”
بقلم / محمـــد الدكــــرورى
ومن مواقف الحِلم والرحمة في هذه الغزوة ، بأنه مر جيش المسلمين في أثناء سيره ببستانِ رجل كافر أعمى يُدْعى مِرْبَع بن قيظي، فلما سمع حِس الجيش، قال: لا أُحِل لك إن كنت نبيا أن تَمر في حائطي، وأخذ في يده حفنه من تراب ثم قال ، لو أعلم ألا أصيب بها غيرك لرميت بها وجهك، وأساء الأدبَ مع النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
فابتدره القوم ليَقتلوه ويؤدبوه ، عقابًا له على سوء أدبه مع النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحِلم وعفو ورحمة أمرهم أن يتركوه ولا يَمسوه بسوء، قائلاً لهم: ” دَعوه؛ فإنه أعمى القلب، أعمى البصر “
ولما دخل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، أرض أحد أحتل مواقع متميزة في أرض المعركة ووضع فرقة من الرماة على الثغرة الوحيدة الموجودة في أرض المعركة، وأكد عليهم مرارا عدم التخلي عن مواقعهم مهما كانت الظروف ، وقال لعبد الله بن جبير قائد الرماة: “انْضَحْ عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ لَا يَأْتُونَ مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا فَاثْبُتْ مَكَانَكَ، لَا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ”.
فكانت الأوامر في منتهى الوضوح لا تفتح بابا للاجتهاد عند الرماة، كلها تحمل معنى واحدًا، وهو الثبات الثبات فوق جبل الرماة ، وبدأ القتال في منتهى القوة والشراسة وأول ما بدء للقتال كان حول راية الكفار، وكانت راية الكفار كانت مع بني عبد الدار وكان أول من يحملها من بني عبد الدار طلحة بن أبي طلحة العبدري .
وكان طلحة من أكبر وأعظم وأقوى فرسان قريش وكان يلقب بكبش الكتيبة وخرج ليطلب القتال وكان أول من طلب القتل من قريش وخرج وهو حامل الراية وعلى جمل وأحجم عنه المسلمون لما رأوا هيئته وقوة بأسه
وتقدم الزبير بن العوام الذي لم يكتف بقتاله بل قفز فوق جمل طلحة بن أبي طلحة وجذبه إلى الأرض وبرك فوقه وقتله، ولما رأى الزبير بن العوام يقتل كبش الكتيبة قال: “أَلَا إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ” واشتد القتال بين الفريقين وتقدم عثمان بن أبي طلحة أخو طلحة بن أبي طلحة الذي قتله الزبير وطلب القتال .
وخرج له حمزة وقتله حمزة ثم خرج أخوهم الثالث أبو سعدة فقتله سعد بن أبي وقاص، ثم خرج مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، ثم كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، ثم الجُلاس بن طلحة بن أبي طلحة، مجموعة كبيرة من بني عبد الدار وكانوا ستة من بيت واحد بيت أبي طلحة .
وكانت مأساة بالنسبة لبيت أبي طلحة بن عبد الدار، وبرغم كل ما حدث في بيت أبي طلحة خرج من بني عبد الدار رجل آخر هو أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، ثم خرج شريح بن قارظ فقتله غلام أنصاري اسمه قزمان، ثم خرج عمرو بن عبد مناف فقتله أيضا قزمان، فخرج ابن شرحبيل بن هاشم، فقتله أيضا قزمان، وقد قاتل قزمان في ذلك اليوم قتالا شديدا.
وَقُتِل يومئذ عشرة من بني عبد الدار، وكلما قتل واحدًا منهم تسلم الراية رجلًا آخر لأنهم تعاهدوا مع أبي سفيان أن لا يتخلوا أبدًا عن الراية وصدقوا في عهدهم مع أبي سفيان، ثم خرج مولى لبني عبد الدار وكان اسمه صواب من الحبشة .
وقاتل قتالًا أشد من السابقين جميعًا قاتل حتى قطعت يده الأولى، ثم الثانية، ثم قطعت رأسه وهو يحمل الراية حتى سقط وبسقوط هذا الغلام الحادي عشر سقطت الراية المشركة ولم ترفع بعد ذلك.
واحتدم القتال بين الفريقين وكان شعار المسلمين في هذا اليوم أَمِتْ أَمِتْ وكانت بداية قوية بالنسبة للمسلمين فقد سقط إحدى عشر قتيلًا من المشركين مقابل لا شيء من المسلمين فكان النصر في البداية حليف المسلمين وانهارت معنويات الكفار، وارتفعت معنويات المسلمين إلى أعلى درجة، وبدأ يسيطر المسلمون على الموقف وقاتلوا بقوة وبضراوة شديدة.
وكان من أبرز المقاتلين في ذلك الوقت سيدنا أبو دجانة وحمزة بن عبد المطلب، ولقد فعلا الأفاعيل بجيش المشركين ، وأبو دجانة هو الذي أخذ السيف من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لما قال : “مَنْ يَأْخُذ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ” وربط على رأسه عصابة حمراء وقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت ، وجال في الأرض وقتل كثيرا من المشركين.
وكان الزبير بن العوام يجد في نفسه ، لأن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، أعطى السيف لأبي دجانة ولم يعطه له هو فقال الزبير في نفسه: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته السيف قبل أبي دجانة فأعطاه له وتركني والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته فرأيته وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي … ونحن بالسفح لدى النخيل ، أن لا أقوم الدهر في الكيول … أضرب بسيف الله والرسول ، فيقول الزبير بن العوام فجعل لا يلقى أحد من المشركين إلا قتله ، وكان في المشركين رجل يقتل كل جريح مسلم، فيقول الزبير: فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة ، مع أن الزبير من كبار الفارسين، فاجتمعا فضرب ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة، فاتقاه بدرقته أي بدرعه فعضت بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله.
واخترق أبو دجانة صفوف المشركين حتى وصل إلى صفوف النساء، ورأى أبو دجانة كما يقول: رأيت إنسانًا يخمش الناس خمشًا شديدًا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف وَلْوَل فإذا هو امرأة وكانت هند بنت عتبة فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وقاتل حمزة قتالًا شديدًا كقتال أبو دجانة، وقاتل قتالًا شديدًا في كل الميادين لم يقف أبدًا في وجهه أحد من المشركين، لكن وقف في ظهره وحشي بن حرب أحد الغلمان في جيش المشركين ، ويحكي وحشي بن حرب قصته فيقول: كنت غلامًا لجبير بن مطعم، وكان عمه عدي قد أصيب يوم بدر فلما أجمعت قريش المسير إلى أحد قال لي جبير: إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق .
فقال فخرجت مع الناس وكنت رجلًا حبشيًا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئًا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هدًا ما يقوم له شيء، يقول وحشي: فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنته (أي في أحشائه) حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوي فغُلب.
وكان يريد قتل وحشي، ويقول وحشي: فتركته حتى مات، فأخذت حربتي فذهبت إلى العسكر فقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة وإنما قتلته لأعتق فلما قدمت مكة عتقت ،وحلت الكارثة على جيش المسلمين بقتل حمزة أسد الله وأسد رسوله ، ومع قتل حمزة وبرغم الخسارة الفادحة التي خسرها المسلمون ظل المسلمون مسيطرون على الموقف تمامًا في أرض أحد.
وأما عن موقف أهل السنة والجماعة من الصحابي الجليل وحشي بن حرب قاتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما ؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم كرهه ؟ وهل نكرهه لكره رسول الله صلى الله عليه وسلم له ؟ فالصحابي وحشي هو كغيره من الصحابة ، وإنما قتل حمزة قبل الإسلام، والإسلام يجب ما قبله ، ومن تاب ، تاب الله عليه، ولا إشكال في هذا ، وأهل السنة يترضون عنه ويوالونه كسائر الصحابة .
وقاتل عامة المسلمين يومئذ قتالًا عظيمًا شديدًا قاتل أبو بكر وعمر وعلي والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ كل المسلمين قاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاءً حسنًا في ذلك اليوم ، وكانت لخالد بن الوليد نظرة عسكرية ثاقبة وكان يومئذ مشركًا .
ورأى الثغرة التي يمكن له من خلالها أن يخترق جيش المسلمين والتف بفرقة كانت معه من فرسان المشركين حول جبل الرماة إلا أنه فوجئ بسيل من السهام من فوق الجبل من كتيبة الرماة التي وضعها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فوق الجبل فرَدّت خالد بن الوليد.
وما استطاع خالد بن الوليد بحنكته وذكائه أن يتجاوز تلك الكتيبة ويخترق خلف الجيش المسلم ،وكانت هذه المحاولة الأولى لخالد وكرر ذلك مرات عديدة إلا أنه في كل مرة ترده فرقة الرماة من فوق الجبل، وفشل سيدنا خالد في تجاوز فرقة الرماة التي كان قد وضعها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فوق الجبل.
وبدأت الهزيمة تدب في جيش المشركين ثلاثة آلاف مشرك وكأنهم يقابلون ثلاثين ألف مسلم برغم قلة المسلمين ، وبدأ المشركين يفكرون جديًا في الهرب وبدأوا يتراجعون إلى الوراء شيئًا فشيئًا ثم فروا قِبَل مكة تاركين النساء وراءهم حتى النساء هربن، ويقول الزبير بن العوام: لقد رأيت خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، فكان نصرا للجيش المسلم لا يقل روعة عن نصر بدر .
والله تعالى قد وعد المؤمنين إن كانوا صادقين وصابرين ومتبعين للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم النصر في أحد وفي غيرها ، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بشرهم بذلك قبل الخروج إلى أحد وإلى هذه اللحظة المسلمون ملتزمون بما قاله النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، بما كانوا عليه يوم بدر لذا تحقق النصر حتى هذه اللحظة.
وفيها أصيبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكُسرت رباعيته ، وشُج رأسه، وكُلِم في وجنته ، وفيها أقبل أُبي بن خلف على فرسه وهو يَصرخ: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فقال المسلمون: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ قال: ” دعوه “، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربةَ من الحارث بن الصمة، ثمَّ استقبله فطعنه في عنقه طعنةً تدحرج منها عن فرسه مرارا.
وصعد المسلمون الجبلَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأراد المشركون صعودَ الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا ينبغي لهم أن يَعلونا “، فقام المسلمون ورموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، وقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر.
وفيه مثل المشركون بعدد من المسلمين القتلى ، ومنهم حمزة رضي الله عنه، فجدعوا الأنوف، وقطعوا الآذان، وبقروا البطون، وكان حصيلة القتلى من المسلمين سبعين شهيدًا، وحصيلة القتلى من المشركين اثنين وعشرين قتيلًا.
وقد خلَص المشركون إلى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهَه، وكسروا رباعيته، وهشموا البيضة على رأسه، ورَموه بالحجارة، ونشِبت حلقتان من المِغْفَر في وجهه، وسال الدمُ من وَجْنته ، وأخذت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم عن وجهه، فكان الدم يزيد، حتى أخذت قطعة من الحصير فأحرقتها وألصقتها بالجراح، فاستمسك الدم .
ورجع النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، إلى المدينة المنورة واستقبل في حزن شديد جدا، فكل بيت تقريبا فيه شهيد، وقابلته في الطريق حَمْنَة بنت جحش رضي الله عنها، ونَعَى إليها أخاها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له الله ، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له الله ، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال صلى الله عليه وسلم : “إن زوج المرأه منها لبمكان ”
ومرت به امرأة من بني دينار، وهذه المرأة أصيب زوجها وأخوها وأبوها في أُحُد نُعوا إليها جميعًا، فقالت: “ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟” فقالوا: “خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين”. قالت: “أرونيه حتى أنظر إليه”. فأشاروا إليه، فقالت: “كل مصيبة بعدك جَلَلٌ” ، أي صغيرة. فكانت مشاعر الحب للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم كبيرة رغم المصاب الفادح الذي أصيب به الجميع.
التعليقات مغلقة.