وقفه فى حياة الخنساء
بقلم / محمـــد الدكــــرورى
تماضر بنت عمرو بن الحرب بن الشريد السُلمية ، صحابية شاعرة ، أجمع أهل الشعر والعلم على أنها لم تكن امرأة قبلها ، ولا بعدها أشعر منها، فهي أم عمرو، تُماضِر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد، من بني رِياح، ثم من بني سليم ، لقبت بالخنساء ، والخَنَس هو قصر الأَنف ، وتأخره مع ارتفاع قليل في أرنبته، يكون في بقر الوحش والظِّباء فيزينها، غلب عليها هذا اللّقب، وأخمل اسمها، فلا تُعْرف إلاَّ به.
وولدت قبل الأسلام وعاشت بعده، وكانت ذات حسب وجاه وشرف، واتصفت بجمالها الأخاذ وتقاسيمها المتناسقة، ولهذا فقد شبهوها بالبقرة الوحشية، والعربي اذا تغزل بالأنثى وأراد التعبير عن جمالها، شبهها بذلك.
وهل سمعتم بها من قبل؟ وقد يقول الكثير منكم: لا، نحن لا نعرف هذا الإسم، وأنا أقول: لا بلى، كلكم تعرفونها إنها الخنساء، ومن لا يعرف الخنساء ، لا أظن بلدًا من البلدان الإسلامية لم يسمي شارعًا أو مدرسةً أو ساحةً باسم الخنساء ، ولا أظن أحدًا منا لم يردد عبارتها الشهيرة التي قالتها حين استشهد أولادها الأربعة: الحمد الله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
وكانت الخنساء تمتلك قدرة فائقة على قول الشعر وتكتنز ثراءً عريضًا من مفردات اللغة ومعانيها، فسُئل جرير مرة: من أشعر الناس؟ فقال: أنا لولا الخنساء ، ويقول قائل: أليس الشعر أمرًا مكروهًا مذمومًا في الإسلام؟ ألم يقل الله تعالى في كتابه الكريم: ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) سورة الشعراء
ألم يقل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ” لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا” وأنا أقول لهذا السائل حتى ندرك معنى الآية الكريمة والحديث الشريف ونجد الجواب الشافي، لا بد أن نبحث في سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع هذه الصحابية الشاعرة، وكيف كان يتعامل معها، هل نهاها عن قول الشعر؟ هل أعرض عن سماع شعرها؟ أم ماذا فعل؟
وقد تدهشون عندما تعلمون أنه عليه الصلاة والسلام كان يستنشد الخنساء الشعر، أي يطلب إليها أن تقول الشعر أمامه، وأُحب أن أؤكد هنا عن معنى هام قد يسيء البعض فهمه، فإنشاد الشعر عند العرب يعني إلقاء الشعر لا يعني غناء الشعر كما هو مفهوم كلمة إنشاد اليوم في عرف الناس، كما يحاول بعض المتسللين والمتصيدين أن يزعموا، كان شعر الخنساء إذن يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول لها ممتدحًا مستحسنًا: “هيه يا خناس”، وكان في بعض الأحيان يومئ بيده تعبيرًا عن إعجابه بشعرها.
ويُروى أن أعرابيًا جاء إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فتكلم بكلامٍ فصيح ٍ مبين، فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ثم قال: ” إن من البيان سحرًا وإن من الشعر حكمًا ” رواه ابن حبان ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن من الشعر حكمةً ” رواه البخارى .
وكان أيضًا صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ينشدون الشعر أمامه فيستمع إليهم مبتسمًا، من هذا ما يرويه جابر ابن سمُرة رضي الله عنه فيقول: “جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مئة مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر أمامه ويتذاكرون أشياء من الجاهلية وهو ساكت وربما تبسم معهم”.
وقد رفضت الخنساء الزواج من دريد بن الصمة ، سيد بني جشم، بعد أن طلبها من صديقه وأخيها معاوية، وقد عرف فيها أباها رجاحة العقل واتزان الفكر، ولهذا فلم يعارض على رفضها، ولم يكن ذلك حقا لكل ابنة، وإنما هو خصيصة تمنح لمثيلات الخنساء .
وتزوجت من رواحة بن عبدالعزى الذي كان مقامراً، وقد ضحت في سبيل الحفاظ عليه بالكثير من طبيعتها وكبريائها، كي تجعله يتعلق بها، غير أنه غالى في انحرافه واستغل حرصها عليه أسوأ استغلال، وانتهز مالها ومال أخيها .
حيث كانت تذهب لأخيها صخرا تشكو أليه حالها وماتلقى من ضيق العيش ، فيشطر صخر ماله نصفين يعطيها خيرهما ، حتى انفصلت في النهاية عن عبدالعزى ولها منه ابن اسمه عبدالله .
لم يطل المطال بالخنساء حتى تقدم اليها مرداس بن أبي عامر السلمي، الملقب بالفيض لسخائه، وكان مرداس بالإضافة لكرمه، رجلاً جد وعمل لايترك فرصة ألا ويقتنصها ليوفر لأسرته أسباب الحياة الكريمة، حتى مات في أحدى مغامراته تاركا للخنساء أربع أبناء هم: العباس وزيد ومعاوية وبنت اسمها عمرة.
وقد رثت الخنساء زوجها مرداس لتفصح عن مدى الأسى والحزن لفراقه ، حيث كان مرداس في رأيها أفضل الناس حلما ومروءة وشجاعة ، وفي عام 612 قتل هاشم ودريد ابنا حرملة أخاها معاوية ، فقامت بتحريض أخيها الأصغر صخر بالثأر ، واستطاع الأخير قتل دريد انتقاما لأخيه ولكنه أصيب بطعنة أسكنته فراشه ، ومرض بسببها وباتت حياته مملة ، حتى أن زوجته حينما سؤلت عنه أجابت بأنه لا حي فيرجى ولا ميت فينعى .
ومكث صخر في مرضه حتى مات عام 615 ، فانهارت الخنساء اثر موته واقامت على قبره زمانا تبكيه وتندبه وترثيه ، وقد قيل بأن الخنساء رثت صخرا أكثر من معاوية ، ولكن في حقيقة الأمر بأن رثاءها لمعاوية لم يكن قليلا ، غير أنه اذا ما قورن برثائها لصخر بدا قليلا ، وذلك بسبب حبها وتعلقها الشديد بصخر .
ويُروى أنها دخلت على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تلبس صِدارًا من شعر الحيوان يغطي عنقها إلى سرتها، كان الجاهليون يلبسون هذا الصدار حدادًا على الأموات، فقالت لها أم المؤمنين عائشة: ماهذا يا خنساء؟ أما علمتي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؟ أجابتها الخنساء: والله لم أعلم يا أم المؤمنين ولكن لهذا الصدار قصة دعتني إلى لبسه .
فقالت: حدثيني بهذه القصة، قالت: زوجني أبي لسيد قومه وكان رجلًا مبذرًا أسرف في ماله حتى أنفذه، فأتيت أخي صخرًا استعينه، فقسم ماله شطرين وأعطاني أحسن الشطرين، ولكن زوجي عاد إلى إسرافه وتبذيره حتى أذهب المال، فقسم صخرٌ ماله مرةً ثانيةً وأعطاني أحسنه، فقالت له زوجته مغتاظة: أما ترضى أن تعطيها النصف حتى تعطيها الخيار.
فأجابها: والله لا أمنحها شِـرارها *** وهي التي أُرحض عني عارها ولو هلكتُ خرقت خمارها *** واتخذت من شَعَرِ صـدارها ، ومنذ ذلك الوقت آلت الخنساء ألا يفارق الصدار جسدها ما بقيت وفاءً منها من ذكرى أخيها الذي قاسمها ماله مرتين.
وفي معركة القادسية وكان في صحبتها أولادها الأربعة، كان ذلك سنة الرابعة عشر للهجرة عندما أرسل أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب سعدًا ابن أبي وقاص على رأس جيش لفتح العراق وتحريرها من الإمبراطورية الفارسية الغاشمة والتي استعبدت أهل العراق ففرضت عليهم الضرائب الجائرة وحرمتهم من العلم ومن الحرية الدينية ومن أبسط حقوق الحياة إلى جانب منعها دعاة الإسلام من الدعوة إلى الله تعالى في تلك البلاد.
وسار جيش يعد للجهاد في سبيل الله تعالى حتى وصلوا إلى القادسية من أراضي العراق، وهناك التقى الجيشان جيش المسلمين وقائدهم سعد ابن أبي وقاص وجيش الفرس وقائدهم رستم، وقد اختلف المؤرخون في عدد جيش المسلمين والأرجح أنهم بلغوا الثلاثين ألف مسلم، كما اختلفوا في عدد جيش الفرس ما بين ستين ألفًا والمئة ألف، طبعًا عددًا غير متكافئ فضلًا عن أن مع جيش الفرس آلة قتال رهيبة لم يعهدها المسلمون من قبل ولم يألفوها، وعدد كبير من الفيلة يقال إنهم ثلاثون فيلًا ويقال سبعون فيلًا .
وكان اليوم الأول من المعركة يومًا شديدًا على المسلمين حيث جعلت الخيول تفر بسبب رؤيتها للفيلة وسماعها لصوتها ، وشاركت الخنساء في معركة القادسية ضمن جمع النساوين، فكن يخدمن الجيش ويطعمن ويسقين ويرعين أمور الجند ويرددن الجرحى والقتلى إلى معسكر المسلمين، اغتم جميع من في الجيش رجالًا ونساءًا لما حدث في اليوم الأول من المعركة بسبب الفيلة، واجتمع سعد قائد جيش المسلمين بكبار قواده يسألهم عن حيلة تمكنهم من التغلب على الفيلة .
وفكر البعض عن حيلتين بارعتين: أولهما أن يصوب بعض الرماة نبالهم إلى ركبان الفيلة الذين يركبون على الفيلة فينشغلون بصد النبال عن أنفسهم فيتسلل بعض الجنود إلى خلف الفيلة ليقطعوا الركائب المشدودة على ظهورها وبالتالي يسقط الذين على ظهور الفيلة، فقد أسفرت هذه الحيلة عن ارتفاع أصوات الفيلة وهيجانها يمينًا وشمالًا فضلًا عن إصابة بعضها بالسهام .
أما الحيلة الثانية: فهي إلباس بعض الإبل لباسًا مبرقعًا تظهر فيه الإبل شبيهة بالفيلة، مما جعل الفيلة تتوقف عن التقدم بين صفوف المسلمين ، ثلاثة أيام مضت والحرب سجال بين المسلمين والفرس، لا غلبة لأحد الطرفين على الآخر، أحست الخنساء بالخطر الكبير الذي يحدق بالمسلمين وأدركت أن هزيمتهم أمام الفرس في هذه المعركة تعني اشتداد عود الفرس واستمرار طغيانهم واستبدادهم وربما يجرهم هذا إلى التفكير في غزو المسلمين في عقل دارهم، لذلك لا بد من التضحية لا بد من الاستبسال في سبيل نصرة دين الله، فإما النصر وإما الشهادة.
فجمعت الخنساء أولادها الأربعة عشية الليلة الثالثة من ليالي المعركة وخطبت فيهم قائلة: “يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد كما إنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم وإنكم تعلمون ما أعده الله تعالى للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، سكتت الخنساء هُنيهة وهي تنظر إلى أولادها بعينين أغرورقتا بالدموع ثم تابعت تقول: اعلموا يا أبنائي أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، والله تعالى يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) .
في اليوم الرابع من المعركة خرج أبناء الخنساء إلى لقاء العدو وهم يحملون معهم شحنات الحماس والإيمان والإخلاص التي زودتهم بها أمهم الخنساء، ما تزال كلماتها الأخيرة تجلجل في آذانهم: الدار الباقية خير من الدار الفانية، الدار الباقية خير من الدار الفانية ، وفي ذلك اليوم الذي استشهد فيه أولاد الخنساء الأربعة تم النصر للمسلمين بعد قتال دام أربعة أيام، وقتل رستم قائد الفرس وفر جنود العدو لا يلوون على شيء.
وبلغ الخنساء خبر استشهاد أولادها الأربعة مرفقًا بخبر النصر على الأعداء، فماذا كان موقفها يا ترى؟ هل بكت كما بكت أخوالهم قبل الإسلام؟ هل نعتهم ورثتهم أسفًا وحزنًا وألمًا كما رثت أخويها من قبل؟ إن من يمعن النظر في موقف الخنساء من استشهاد أولادها الأربعة في يوم واحد وموقفها قبل الإسلام في مقتل أخويها لا يصدق أنها نفس المرأة، نفسها الخنساء التي بقيت زمنًا طويلًا ترثي وتبكي أخويها .
ورفعت يديها إلى السماء عندما بلغها نبأ استشهاد أولادها الأربعة في القادسية لتقول بلسانٍ واثقٍ وقلبٍ مطمئن: الحمدلله الذي شرفني باستشهادهم وإني لأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته ، إنه الإيمان الذى يصنع المعجزات، الإيمان والرضا والاستسلام لقضاء الله كالكيمياء يغير طبائع الأشياء، رحم الله الخنساء، ورحم أولادها الأربعة، ورحم عمر أمير المؤمنين الذي بادر صبر العجوز واستبسالها بالدفاع عن دين الله بالشكر والامتنان، فأجرى لها أرزاق أولادها الأربعة حتى قُبض رحمه الله.
وماتت الخنساء رضي الله عنها سنة 24 هـجريه الموافق 645ميلادى وعمرت إلى أن أدركت نصر الإسلام المبين كان موتها في عامها الحادي والسبعين، وقد طبقت شهرتها الآفاق، إن لم يكن ببكائها على أخواتها ، فباستشهاد بنيها الأربعة ، وماتت ومعها شاهد تضمن به تسجيل يوم موتها، وهو سجلات الدولة المدون فيها اسمها، لتستلم أرزاق بنيها الشهداء الأربعة من ديوان بيت المال، وكان عمر قد قدر لها عن كل واحد مائتي درهم إلى أن قبض رضوان الله عليه.
التعليقات مغلقة.