ولادة كاتبة …قصة قصيرة بقلم /فادية حسون
كنتُ حينها في الصف السادس الابتدائي ، حين أنّبتني معلّمتي لأنني أهملت كتابة موضوع التعبير الإنشائي لمرات متكرّرة ..
وحينها لم يكنِ الضربُ ممنوعًا في المدارس ، وأمام زملائي وزميلاتي كانت صفعةُ الحرجِ أشدّ إيلامًا وتأثيرا من تأثيرِ العصا الملموس .. طأطأتُ رأسي وأنا الطالبة المجتهدة التي تعودتْ على التفوق والتكريم .. وتجنّبتُ النظر في وجوه زملائي الذين تفوقتُ عليهم في جميع المواقف الدراسية، كي لا أرى نظرات الاقتصاص الخبيثة التي أخذوا يمطرونني إياها .. تأبطتُ كراريسي بيأسٍ غير مسبوق .. وذهبت إلى المنزل جارّةً ورائي الكثير من الخيبة مع دموعٍ مالحة أفسدت وجه تلميذة ماتعوّدتْ إلا على مفردات الثناء من قبل معلّميها ..
كانت أمي ( رحمها الله ) كعادتها تُلْقمُ مدفأة المنزل بالمزيد من الأحطاب لتدفئَ أطراف طفلتها التي بللها المطر وأرعدها البرد القارس في الخارج .. ولم تكن تعلم أن طفلتها ترتعد من وطأة عصا المعلمة ونظرات أقرانها المملوءة بالشماتة .. كان قِدرُ الحساء يغلي كالعادة فوق المدفأة ورائحته الزكية تحتل فضاء الغرفة الطينية ذي السقف الخشبي النازف .. وكان رنينُ القطرات في الآنية المتوزعة في أرض الغرفة يساهم في اتساع رقعة البؤس في قلبي الذي تصدّع للتو في المدرسة .. لم تستطع رائحة الطعام الشهية أن تستنفر حاسة الجوع والشوق إلى طعام أمي كما في كل مرة .. فقد أفقدني الموقف شهيتي لكل شيء .. جلستُ وقد أُسقطَ في يدي.. أراجع في مخيلتي المفجوعة تفاصيل الألم التي حجبت عني توسلات أمي لي بأن أنزع ثيابي المبللة وأقترب من المدفأة المتّقدة علّها تضعُ حدًّا لارتعادي المفضوح ..
آثار الدموع على وجنتيَّ كانت ترتسم أمام عينيها الذكيتين على أنها ملامحُ لكارثةٍ ألمّت بقلب طفلتها النجيبة … وبعد أن تناولتُ على مضض بعض اللقيمات المغمسة بالحساء .. أخذتُ دفتري وقلمي وتوجهتُ إلى بيت جارتنا ، التي كان ابنها الكببر طالبًا في كلية الهندسة المدنية .. دخلت والحياء يتملكني وقلت له بصوتي الطفولي المرتجف حرجًا : هلّا كتبت لي موضوع التعبير ؟
نظر لي نظرةَ المفلس وقال لي: لكنني لاأجيد هذا أبدا ، فأنا متخصص بالمواد العلمية فقط .. فطأطأتُ رأسي مجددا وعدتُ أدراجي وأنا أمجّ لعاب خيبتي من جديد … فقلت في نفسي لماذا لاأحاول أن أكتب .. فداخلي كتلة من المشاعر الجياشة ..وماعلي إلا أن أُسقطَها على الورق وأحاول ربطها بما يسعفني به ذكائي الذي به نلتُ أعلى الدرجات في سني دراستي السابقة …وكان الموضوعُ المطلوب كتابته عن فصل الشتاء .. فجلست بجوار نافذتنا المطلة على الشارع .. راقبت السيول التي تجرف معها كل المخلّفات من قواريرَ فارغةٍ وأكياس النايلون وبعض أوراق الشجر التي سحب منها الخريف خضرتها فأحالها صفراء بلا حياة .. وراقبت الفلاحين العائدين من الحقول والبلل يغرقهم .. قرأت في عيونهم رسائل الاستبشار بهذا الزائر الجميل الذي يحمل معه كل الخير .. وفي الحقل المقابل لبيتنا هناك أشجار خلعت أثوابها وبدت كقصور خاوية …
وبدأتُ أكتب وأصوّر ماتراه عيني ..
لاأدري كيف انهالت علي العبارات كما مطر ذاك اليوم ..
وحين انتهيت .. أغلقت دفتري ودسسته في حقيبتي .. وفي صباح اليوم التالي تأبطت حقيبتي وذهبت إلى مدرستي والعبرة تخنقني خوفا من إخفاق جديد يعقبه أذى لنفسي ربما يدمرني ..
جاء دوري في تلاوة موضوعي ..بدأت بالقراءة ونظري مشتتٌ بين كلماتي البكر .. وبين نظرات معلمتي التي كنت أقرأ فيها شيئا من الإعجاب مع هزّة في الرأس تنبي بالوعيد .. وكنت كل برهة أسترقُ النظر إلى العصا الممددة على الطاولة .. خُيّل إلي كأنها حيّةٌ رقطاء تهمّ بالانقضاض على أناملي الناعمة التي لم تبرأ من لسعة الأمس بعد .. كان زملائي يرمقونني بنظرات لم أفهم منها سوى الاستنكار …
أنهيت القراءة وأنا أزيح قطراتِ عرقٍ تصببت من جبيني في غير أوانها حيث فصل البرد والزمهرير ..
توجّهت عيناي إلى وجه معلمتي، مثل مريض ينتظر نتائج التحليل بخوف وذعرٍ لايخفيان على أحد ..
سألتني المعلمة وهي تهز العصا مع نظرة استنكار يشوبها اتهام : من كتب لك هذا الموضوع ؟
قلت بعد أن مججتُ ماء فمي :
أنا ..
قالت : أصدقيني القول ولن أعاقبك لو قلتِ الحقيقة …
هنا أقسمت لها : والله أنا من كتبه ..
كان استنكار المعلمة لكلامي أشبه بشهادة كبيرة وتوقيع صريح على نجاحي …
حينها أشارت المعلمة للتلاميذ أن يصفّقوا لي …فدوّى الفصل بالتصفيق .. وربتت المعلمة على كتفي استحسانا … وقالت : أظن أنني اليوم أمام مشروع كاتبة سيكون لها شأنٌ عظيم يوما ما ..
لا أدري كيف انقضت ساعات المدرسة وخرجت إلى البيت مسرعة غير آبهة بالقطرات .. أحسستٌ بضفيرتيّ كأنهما تحولتا إلى جناحين يحملانني إلى المنزل بخفة العصفور … كانت شهيتي للطعام في أوجها .. ورغبتي في تقبيل وجه أمي كانت جامحة .. صرتُ أرقص على وقع القطرات في الآنية ..
لا أدري !! لعلّ هذه الفرحة ضمّدت الندبات التي أحدثها الفقرُ في بيتنا القديم .. لم أكن بحاجة للمدفأة رغم برودة الجو …
فقد كانت تلك العصا على مرارتها حبلى بكاتبة جديدة وُلدت عند اشتداد الألم وتعاظم الضيق ..
التعليقات مغلقة.