” وهم الوعي الذاتي ” محمود حمدون
ما يميّز الإنسان عمّا سواه من باقي المخلوقات الحية على الأرض أو في الفضاء المنظور حولنا , هو قدرة البشر على الوعي الذاتي بوجودهم وما حولهم .
والوعي الذاتي , أو الوعي بالذات كمفهوم معناه, أن يدرك الكائن الحي وجوده وأن يعي ما حوله وأن ينطلق بوعيه باحثًا عن الغاية والعلّة من تواجده بالحياة , بغض النظر عن وصوله لإجابات مقنعة أو زائفة .
لذا , وفي ضوء ما نعرف لم نعهد مخلوقا أو كائنا حيا آخر ” بخلاف البشر” عالما وواعيا ومدركا بوجوده وذاته على الأرض كما فعلنا ونفعل نحن البشر, ولعل ” الوعي الذاتي ” كان نقطة الإنطلاقة الرئيسية لنشأة الحضارة البشرية عموما , فالوعي يعني الإدراك بالموجود والوجود , ونقطة إنطلاق لتغييره لصورة أو شكل آخر.
لقد تطورت الحضارة الإنسانية , حتى وصلت الآن لمرحلة متقدمة تقنيًا وعلميًا بصورة لم تعهدها البشرية طوال تاريخها من قبل , وبفضل هذه التقنيات الجديدة , اتسعت دوائر الوعي الذاتي للبشر بصورة لا يمكن تدارك أبعادها عند نقطة زمنية محددة حاليًا , فهو ” أي الوعي ” في توسع مضطرد ومتسارع و بشكل مخيف , لدرجة لا نغالي في القول , أن الحضارة الإنسانية على أعتاب مرحلة جديدة كليّة من الوعي الذاتي , ينقلها لآفاق مغايرة تماما لبدايات نشأتها .
ثمة جزم قد يصل لمرتبة اليقين , أن التطورات التقنية في مجال البرمجيات وبخاصة ” الذكاء الاصطناعي ” ستكون مدخلًا لمرحلة جديدة في حياة وحضارة البشر , لدرجة تدعونا للتساؤل :هل سنصل قريبا لمستويات من الذكاء الاصطناعي قادرة على الوعي بذاتها ووجودها كبرمجيات ؟ بمعنى آخر هل سنصل لمرحلة يتمّكن منها الإنسان من نقل قدرته على الوعي الذاتي وإدراك ما حوله في صورة برمجيات ذكية؟!
لنتخيّل ذلك السيناريو , حينما تتواجد بيننا آلات ذات قدرة برمجية عالية للغاية , قادرة على الوعي بذاتها ووجودها . تبدأ تلك المرحلة حين تكون الآلة قادرة على رفض الأوامر وعصيان التعليمات , لسبب يرجع لها هي فقط و بغض النظر عن مشروعيته أو واقعيته..
حينئذ يصبح التفكير المستقل خطوة تالية على نشأة الوعي الذاتي بين هذه الآلات والبرمجيات , وقتها يصبح الوعي بالذات خطوة على طريق مفزع لا نعرف نهايته .
لكن وصولنا ” كبشر ” لهذه المرحلة , يجعلنا نرتد بالتفكير للبدايات أو البدائيات أو الأوليّات إن شئنا الدقة , بمعنى , إذا تمكّن الإنسان من تصنيع ” آلة ” واعية بذاتها وقادرة على التفكير المستقل , أليس ذلك دلالة على أن الوعي والادراك ذاته يتم استزراعة بداية في ” الآلة ” ثم إطلاقها كي تتوهم قدرتها على وعيها بذاتها وبوجودها؟!
نطرح السؤال بصيغة أخرى , كيف تعرف الآلة بداية وعيها بذاتها ووجودها ؟!, خاصة وأن كل ماهنالك أنها وعت فجأة وجودها وأدركت كينونتها بين الكائنات الأخرى سواء ” آلات ” أو كائنات حية أخرى .!
ربما ننتقل الآن لمقام أعلى للحيرة والقلق , فنعمل على صياغة التساؤل بصورة مغايرة تماما , كيف علم الفرد بذاته منذ الآاف السنين ؟ بمعنى كيف أدرك أنه مختلف عمّا حوله ؟ فهل كان وعيًا بحق أم وعيًا مستزرعًا منذ بدايات النشأة ؟ كصورة أقرب لبرمجيات الذكاء الاصطناعي ؟!!
لعل التطور التقني الحادث والجاري الآن , يشير لمقاربة غاية في الأهمية وهي أن الإنسان يعمل بصورة لا واعية على تكرار سيناريوهات قديمة منذ الأزل , كما لو كان ماكينة تصوير ضوئية , تنتج نسخًا متشابهة على شاكلته وربما بفطرة جُبل عليها ومتأصلة ببنيته البشرية المتفردة, بينما يعي الإنسان القائم
( واهمًا ) بتشغيل هذه الماكينة أنه يُنتج نسخا أصلية .
التعليقات مغلقة.