يوميات صائم قصة قصيرة ” عم عاشور “
بسن قلم حسين الجندي
في يوم شديد الحرارة والعرق ينضح من جميع بدنه…
وقف في طابور طويل للخبز…
ابتلع ريقه بصعوبة بالغة من أثر صيام رمضان…
شرد بذهنه…
ورجع بالذاكرة لخمس وثلاثين سنة فائتة…
حيث كان عمره وقتها لا يزيد عن خمس عشرة سنة…
في الصف الثالث الإعدادي…
طلب منه والده شراء الخبز من فرن المدينة المجاورة…
لابد أن تقف في طابور طويل شاق لتحصل على عدد محدود من الأرغفة..
هذا إن استطعت الوصول إلى البائع فالهمج يأتون من الجانبين ليستولوا على أدوار الغلابة والضعفاء!
وحتى إذا قُدِّرَ لك الوصول فربما تجد طريحة الخبز قد نفدت وعليك الانتظار للخبزة الثانية!
أي بعد ساعة تقريبا تقضيها في الطابور وإلا ضاع دورك وتضطر للبداية من جديد…
يالها من مهمة صعبة!
وقد زاد الصيام من صعوبتها…
ها قد وصل إلى مبتغاه…
فالخبز كثير وأمامه فرد واحد لاغير…
والعم عاشور صاحب الطلة الكريهة
والوجه الأسمر ذي الحاجبين الغليظين والعينين الجاحظتين …
صار واقفا أمامه بالضبط ولم يتبق سوى أن يحصل على الخبز…
ما هذا؟!
لقد فعلها العم عاشور وأعطاه عشرة أرغفة فقط من أصل ثلاثين رغيفا على الأقل يريدها…
لم يأبه العم عاشور (الرِّخِم) لتوسلاته…
وليس على لسانه سوى عبارة واحدة :
(اللي بعده متعطلناش!!!)
نظر إليه بحنق وضجر وأعظم أمانيه وقتها أن يدخل الفرن ليكيل له اللكمات…
خاصة عندما رأى من فتحة منفذ البيع الضيقة طاولات الخبز الفاخر المُنْتَقى بعناية فائقة والعم عاشور يُعِدُّها لأناس معينة من الصفوة وأصحاب المحسوبيات!!!
ولمحه وهو يُجَنِّب لنفسه وعياله أجود الأرغفة!
رجع بخيبة الأمل حاملا معه الأرغفة العشرة ويكاد يلتصق لسانه بسقف حلقه من شدة العطش…
وجد والده في انتظاره…
قالبا له ظهر المجن…
جرى من وجهه ولكن إلى أين؟!
فالعقاب واقع لا محالة!
وصدر الحكم…
أسبوع كامل بدلا من ثلاثة أيام يذهب يوميا لإحضار الخبز…
اجتمع لديه ثالوث من الهموم:
الصيام والطابور وعم عاشور !!!
مرت الأيام الأربعة الأُوَل عصيبة كالعادة…
كره فيه الخبز وعاجنه وخابزه وبائعه – خصوصا عاشور الزفت-!!!
بل كره أيضا آكله!!!
إلا أنه في اليوم الخامس قرر الانتقام من عاشور الفاسد!
ذهب إلى مكتب مفتش التموين وأخبره بما يقوم به عاشور من أعمال منافية للعدل والإنصاف…
نظر إليه المفتش نظرة إعجاب من شجاعته ولباقته في الكلام…
ظن أن سيادة المفتش سيقطع رقبة عاشور بالساطور أو على الأقل سيشفي صدور كل من يقف في الطابور…
لكنه ابتسم ابتسامة باردة باهتة وأعطاه بطاقته المُدَوَّن عليها اسمه وتليفوناته وأشار عليه بأن يعطيها لعاشور وسيعطيه الخبز الذي يريد اليوم وكل يوم!
طار فرحا غير مصدق!
دخل المخبز لأول مرة من الباب الذي طالما حسد جميع من يدخل منه…
بمجرد أن أبرز البطاقة في وجه عاشور حتى أعطاه ما يريد بلا تردد!!!
وقف مزهوا كالطاووس يرقب بعنجهية كل الواقفين في الطابور وقد التصقت ألسنتهم في حلوقهم بفعل الصيام والحر…
شعر بأنه من الفئة المنتخبة الvip
أخذ خبزه الفاخر ثلاثين رغيفا بالتمام والكمال وانطلق ممسكا بتلابيب بطاقة المفتش خوفا أن تطير…
وصل البيت هذه المرة واثق الخطا وهو يمشي ملكا…
لم يعد الخبز يمثل له أدنى مشكلة…
عندما داس أحدهم على قدمه…
استفاق من شروده واستعاد الخمس والثلاثين سنة…
وجد نفسه يبتسم ابتسامة ملأت شدقيه سرعان ما تحولت إلى ضحكة عالية هيستيرية كاد بسببها يقع على قفاه عندما سمع إحدى النساء تناشد بائع الخبز :
( يلَّا يا عم عاشور خلصنا بقى احنا تعبنا ياخويا من الوقفة والدنيا حر والناس صايمة دِهْدي)!!!
التعليقات مغلقة.