” عرجون ” محمود حمدون
” عرجون “
محمود حمدون
تذكّرته بعد عشرات السنين كأنه الأمس القريب , رغم قربي منه فترة طويلة من حياته , إلاّ أن معرفتي به زادت من حيرتي ,فأحيانا أراه أبلهًا تائهًا عن الدنيا و الناس من حوله , أوقاتًا أخرى عاقلًا يزن تصرفات و كلام الناس بميزان من ذهب .
يصمت أغلب يومه فتحسبه أصمّا ,ثم ينطلق فجأة في الحديث كشلّال جارف فلا يتوقف حتى يذهب الناس من حوله .
على أن حيرتي بلغت مداها حينما رأيته , هو الكليل البصر النحيف حتى تحسبه عرجون نخل قديم, ينحني ليتخيّر حجرا مما ثقُل وزنه ثم يقذف به في الهواء مرات متتالية و يلتقطه بيمينه , يدور بعينيه بحركة بطيئة حتى يتوقف أمام هدف بذاته , يرفع يده في شكل قوس واسع ثم يُلقي بالحجر بثبات وقوة غريبتين على بنيته الجسدية الضعيفة .
لم يرم هدفا إلاّ وأصابه , فيتفتت إن كان لوحاً زجاجياً أو يترك به ندبة لا يمحوها الزمن إن كان جدارا ولو من ملاط مسلّح , فإن كان بشرا ساقه الحظ العاثر بطريقة فالإصابة قاتلة فإن نجا عاش صاحبها بعاهة بقية حياته .
و قد اعتقدت فترة من الزمن بعشوائية اختياره لمرمى أحجاره الطائرة , ثم زادت حيرتي حينما تتبعّته و أدركت أنها خيارات فُرضت عليه , كان الأطفال يلهون معه لهوا مرّا سمجا يتطور بنهايته لرميه بأحجار صغيرة كما لو كانوا يردّون له الصاع صاعين أو يزيد .
فكان يبتسم ويرفع يديه كأنما يمسك الهواء أو يتحسس جسما غير مرئي ثم يتثنّى بانحناءته المشهورة,التي تلقي الروع في قلوبنا و عيوننا تتبع حجراً وهميًا يندفع بالهواء .
التعليقات مغلقة.