زوجة فرعون”آسية بنت مزاحم”..بقلم محمد الدكروري
زوجة فرعون آسية بنت مزاحم
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
إن المرأة في الإسلام إنسان كامل، أهَّلَها الله لأن تكون موضع كرامة الله، وتتلقى الخطاب الإلهي، والتكليف الرباني ، وتتوجه إليها الأوامر والزواجر التي تناسب واقعها الذي تفرضه طبيعة خلقها، ويفرضه الكمال المنشود في تكوينها، وفي الصنع الإلهي للبشرية في سياق هدايتها نحو الكمال، وسوقها نحو الغايات الكبرى التي أراد الله لها أن تسعى إليها، وتحصل عليها.
فكانت المرأة هي ذلك المخلوق، الذي لا مجال لأن يُفرض عليه الرأي والاعتقاد، ما دامت تملك العقل والتمييز، والإرادة والاختيار، وينسحب ذلك على مختلف الشؤون والحالات، خصوصاً فيما يرتبط بالناحية الإعتقادية والإيمانية.
فها هو أعظم المستكبرين، وأشدهم علواً وعتواً، والذي بلغ في استكباره حداً ادعى فيه الربوبية ، ها هو ، قد عجز عن فرض إرادته على المرأة، رغم أنها كانت محاصرة بكل القوى ومحاطة بظروف شديدة القسوة، من شأنها أن تُسقط إرادتها، ولكنها كانت أقوى من ذلك كله، ففرضت إيمانها وإرادتها، وهزمت كل تلك القوى العاتية، وباء ذلك المستكبر المدعي للربوبية بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة ، وأقصد بها ، آسية بنت مزاحم امرأة فرعون بالذات.
وهذه هي المرأة التي أراد الإسلام لها ، كما أراد لمريم بنت عمران، وخديجة، والزهراء عليهن السلام ، أن تكون النموذج الرائد، والمثل والأسوة للنساء في هذه الحياة، وأن تكون مظهراً لإرادة الله تعالى على هذه الأرض، وتجسيداً لحكمته، وإظهاراً لبديع صنعه.
فماذا عن هذه المرأة النموذج الفذ، والمتفرد، التي فاقت نساء عصرها، ونالت الأوسمة الكبرى، ولكن لا من الناس العاجزين والقاصرين، وإنما من مصدر الكمال والقدرة، والعزة والكبرياء، حيث قدمها الله تعالى ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وآله ، لتكون نموذجاً، وقدوة، وأسوة، ومثالاً يُحتذى، وقمة للكمال الإنساني، فاقت نساء عصرها كلهن صلوات الله وسلامه عليها، فكانت بحق سيدة نساء عالمها كله.
آسية بنت مزاحم زوجة مصعب الريان فرعون مصر أيام ولادة نبي الله موسى بن عمران، كانت من خيار النساء، ومن بنات الأنبياء وإحدى النساء الموحدات الفاضلات المؤمنات بالله وبشريعة نبى الله موسى عليه السلام ، وكانت أما للمؤمنين ترحمهم، وتتصدق عليهم، وتعطيهم، وعرفت بالصلاح والتقوى والتراحم على ضعفاء المؤمنين، وكانت تقضي أكثر أوقاتها في ذكر الله وتسبيحه وتقديسه، وكانت تُخفي إيمانها بالله وبشريعة موسى عليه السلام خوفا من زوجها الذي تجبر وعتا وكفر بالله وادعي الألوهية، وأتى بقبائح الأمور .
ولقد كانت آسية بنت مزاحم، زوجة فرعون ، امرأة من بني إسرائيل، وكانت مؤمنة ومخلصة، وكانت تعبد الله سراً ، وكانت على ذلك إلى أن قتل فرعون امرأة حزبيل، فعاينت حينئذٍ الملائكة يعرجون بروحها، لما أراد الله بها من الخير، فزادت يقيناً، وإخلاصاً، وتصديقاً ، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون، يخبرها بما صنع بها ، فقالت: الويل لك يا فرعون، ما أجرأك على الله جل وعلا.
فقال لها: لعلك قد اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبتك ؟. فقالت: ما اعتراني جنون، لكن آمنت بالله، ربي، وربك، ورب العالمين ، فدعا فرعون أمها، فقال لها: إن ابنتك أخذها الجنون، فأقسم لتذوقن الموت، أو لتكفرن بإله موسى ، فخلت بها أمها، فسألتها موافقة فرعون ، فيما أراد، فأبت، وقالت: أما أن أكفر بالله، فلا والله لا أفعل ذلك أبداً.
وعلى ضفاف النيل وفي إحدى شرفات القصر العظيم، جلست آسية بجوار زوجها فرعون مستأثرة دون نسائه بحبه وإعجابه، فنظرت إلى سواد في عرض النيل يشبه الصندوق، فأمرت جواريها بإحضاره، وما كان أشد دهشتها حين فتحت الصندوق، فإذا فيه طفل صغير “.
وفور رؤيتها لهذا الطفل الصغير، ندت منها صيحة إعجاب وقالت: “ما أجملها من هدية، إنها هدية من السماء، فقالت: هذا ابني ولم يكن لها ولا للملك ولد، وقال فرعون: كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟ ثم قام وخرج.
وكان سبب ذبح الغلمان أيام فرعون هو أن فرعون كان قد رأى في منامه أن نارا أقبلت عليه من جهة بيت المقدس فأحرقت مصر ، فسأل فرعون كهنته تأويل رؤياه هذه فقالوا له: سيولد غلام من بني إسرائيل يكون هلاك أهل مصر على يديه، فأصدر أوامرك بقتل كل مولود ذكر يولد لبني إسرائيل في توه وساعة ولادته .
وذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه، فلم يتجاسرون على فتحه، حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون ، آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، الذي كان ملك مصر في زمن يوسف ، وقيل ، إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى ، وقيل ، بل كانت عمته، فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب، رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية، والجلالة الموسوية، فلما رأته ووقع نظرها عليه، أحبته حبًا شديدًا جدًا، فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه.
فعندما جاء الذباحون ودخلوا على آسية يطلبون الصبي لتنفيذ ما أمرهم به فرعون مسبقا بقتل كل غلام، رفضت بشدة وقالت لهم انصرفوا من أمامي، فإني لا أعطي الطفل لأحد، ثم ذهبت إلى فرعون تستعطفه وتتوسل إليه ألا يقتل الغلام الصغير، يقول الله تعالى ( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) سورة القصص .
وظلت تتوسل لفرعون، فأجابها: قرة عين لك، أما أنا فلا حاجة لي فيه، ثم ألقى الله تعالى محبة نبيه موسى عليه السلام في كل من رآه حتى فرعون، يقول الله تعالى ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِ ) سورة طه .
وحينما وصلت البشارة الي زوجة فرعون بالوصول الي مرضعة تكفل الرضيع ، فأرسلت بنت مزاحم إليها فأتت بها وبه، فقالت لها: امكثي عندي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب حبه شيئًا قط، لكنها في النهاية أخذته إلى بيتها لترضعه ، ولمّا ترعرع موسى قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريد أن تريني ابني، فوعدتها يوما تريها فيه إياه .
وهنا قالت آسيا زوجة فرعون لمن في القصر: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهديةٍ وكرامة، فلم تزل الهدايا تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها أكرمته وفرحت به، وأعجبها وأكرمت أمه لحسن أثرها عليه.
وبعد سنوات وعدما بلغ موسى أشده وعاد إلى مصر بأمر من ربه بدأ يدعو فرعون وقومه إلى عبادة الله وحده، فواجهه فرعون بكل قوة وبطش حتى انتهوا إلى مبارزةٍ بالسحر وامرأة فرعون تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون، وكانت المخاوف تحاصر السيدة أسيا أن ينجح عدو الله وسدنته في الحاق الأذي بموسي .
وبعد عدة سنوات من القهر والظلم ارتبطت وفاة زوجة فرعون أسيا بنت مزاحم بحادث بشيع ويتمثل في مقتل ماشطة ابنة فرعون وابنائها فما إن فرغ فرعون من قتل الماشطة حتي دخل الي مخدع زوجته يستعرض أمامها قواه فصاحت به آسيا: الويل لك ما أجرأك على الله ثمّ أعلنت إيمانها بالله، فغضب فرعون غضبا شديدا وتوعدها بالموت إن لم تتراجع .
فرعون عاني لفترة من الذهول بسبب إصرار زوجته علي إعلان إيمانها لكنه مع هذا أقسم مخاطبا زوجته بنت مزاحم : لتذوقنَّ الموت أو لتكفرنَّ بالله، ثم أمر فرعون بها، فمُدت على لوح وربطت يداها وقدماها في أوتادٍ من حديد، وأمر بضربها، فضُربت حتى بدأت الدماء تسيل من جسدها والّلحم ينسلخُ عن عظمها .
وقد ضربت السيدة آسية بنت مزاحم أقوى النماذج في الصبر على الشدائد والثبات على الإيمان بالله على الرغم مما طالها من أذى، بعد إيمانها بنبي الله موسى عليه السلام ، ” قال أبو العالية: اطلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها: فقال لهم: إنها تعبد ربا غيري، فقالوا له: أقتلها ، فأوتد لها أوتادا وشد يديها ورجليها .
فلمّا اشتد عليها العذاب، وعاينتِ الموت، رفعت بصرها إلى السّماء وقالت: “رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين” وارتفعت دعوتها إلى السماء، وقال ابن كثير: فكشف الله لها عن بيتها في الجنة فتبسمت ثم ماتت.
وكان زوجة فرعون المؤمنة كانت مثالًا يُحتذى به للصبر والثبات، بل وتضمنت العديد من الدُروس والعبر التي يستفاد منها في واقع الحياة، وعلي رأسها الصمود والثبات على العقيدة أمام الإغراءات والتحديات ، التعبير بجرأةٍ وشُموخ عن الهوية والانتماءات الدينيةِ ورفض الانتماءات الأخري بل أن القصة كرست اعتقادا بأن النعيم المؤجل الدائم خير من النعيم العاجل اللحظي فدائما ما عند الله خير وأبقى.
ويقول الله تعالى في سورة التحريم ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
التعليقات مغلقة.