الصدق …بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
الصدق من الأخلاق التي أجمعت الأممُ على مر العصور والأزمان، وفي كل مكان، وفي كل الأديان، على الإشادة به، وعلى اعتباره فضله، وهو خُلق من أخلاق الإسلام الرفيعة، وصفة من صفات عباد الله المتقين ، ولذلك فقد وصف الله نبيه الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم ، بأنه جاء بالصدق، وأن أبا بكر وغيره من المسلمين هم الصادقون ، كما أن التحلي بالصدق كان من أوليات دعوتِه ، صلى الله عليه وسلم .
وإن دين الإسلام دين فضائل كريمة، وشمائل حميدة، ومُثُل عالية، وأخلاق نبيلة، وإن من أعظم تلك الفضائل مكانةً في دين الإسلام، وآكدها وجوباً، وأعمِّها نفعاً: التحلي بالصدق، والاتصاف به قولاً وعملاً، وظاهراً وباطناً، فإن الصدق أيها المؤمنون من أكرم الصفات الإنسانية، وأرقى الفضائل الأخلاقية، ومن أهم الأسس في بناء المجتمع، وسعادة الأمة، إذ به يرتبط كل شأن من شؤون الحياة، وتتعلق به كل مصلحة من مصالح الناس .
ولذا أمر الله عز وجل بالتحلي به، وجعله خُلُقاً لأشرف خلقه، وحملة وحيه، وأمنائه على شرعه، فكان رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم ، المثل الأعلى للبشرية في الصدق قولاً وعملاً، وكذلك كان الأنبياء والمرسلون من قبله .
وحين أمر الإسلام بالصدق عمل أيضاً على القضاء على كل ما ينافيه مما يكون سبباً في زعزعة الثقة بين الناس، وحصول البغضاء والعدوات فيما بينهم، فنهى عن الكذب والافتراء، وإشاعة الأقوال المختَلَقة، والأخبارِ المغرضة، ضد فرد من المسلمين، أو مجتمعٍ من مجتمعاتهم، فإن الكذب من خلال الشر، ومساوئ الأخلاق، يدل على مهانة النفس، ودناءة الهمة، وسقوط المنـزلة .
وقال الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ” عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق ، حتى يكتب عند الله صديقاً” فأخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن الصدق يهدي إلى البِّر ، والبِّر هو اسم جامع لكل خير وطاعة ، وإحسان إلى الخلق .
والصدق عنوان الإسلام، وميزان الإيمان ، وعلامة الكمال ، وإن لصاحبه المقام الأعلى عند الملك المتعال، وبالصدق يصل العبد إلى منازل الأبرار، وبه تحصل النجاة من الآفات وعذاب القبر وعذاب النار.
وإن الاتصاف بالصدق واجب على كل مسلم، إلا أن أهميته تزداد، وشأنَه يعظم، في حق القدوة من الناس، فالعلماء الربانيون الذين هم ورثة الأنبياء، أمناء في تبليغ الرسالة الإلهية، ونشرِ الدعوة المحمدية بكل صدق وأمانة، يخلصون لله تعالى في دعوتهم، ويتجردون عن كل غرض أو هوى، بأن لا يكون لهم قصدٌ إلا بيانَ الحق، ونفعَ الخلق.
وقد أنزل الله عز وجل ، في شأن الصادقين معه آيات تتلى إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، فقد ثبت عن أنس أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشق ذلك على قلبه، وقال: أول مشهد شهده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غبتُ عنه، أمَا والله، لئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَرَينَّ الله ما أصنع!
قال: فشهد أحدًا في العام القابل، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا أبا عمر، إلى أين؟ فقال: واهًا لريح الجنة ، إني أجد ريحَها دون أُحُد، فقاتل حتى قُتِل، فوُجِد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة، فقالت أخته الربيع بنت النضر: ما عرفت أخي إلا ببنانه، فنزلت هذه الآية: (مِنَ الْمومِنِينَ رِجَال صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) سورة الأحزاب .
وبالصدق يكون العبد معتبراً عند الله عز وجل ، وعند الخلق، فقال صلى الله عليه وسلم: ” البيعان بالخيار ، فإن صدقا وبيَّنا ، بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما ، مُحِقَت بركةُ بيعهما” فالبركة مقرونة بالصدق والبيان، والتَّلف والمحق مقرون بالكذب والكتمان ، ولا تجد صادقاً إلا مرموقاً بين الناس بالمحبة والثنا التعظيم، ولا كذّاباً إلا ممقوتاً بهذا الخُلُق الأثيم.
والصدق يوصلك الى التوفيق للخاتمة الحسنة ، لما ثبت في الحديث الذي أخرجه النسائي وغيره عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فآمن به واتَّبعه، ثم قال: أهاجرُ معك؟ فأوصى به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، بعضَ أصحابه .
فلمَّا كانت غزاته، غنم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فقَسَمَ وقَسَمَ له، فأعطى أصحابَه ما قَسَمَ له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قَسْمٌ قَسَمَه لك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما هذا؟ قال: ” قسمتُه لك “، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا ، وأشار إلى حلقه بسهم ، فأموت فأدخل الجنة .
فقال له النبى الكريم صلى الله عليه وسلم : ” إن تصدق الله يصدقك “، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا إلى قتال العدوِّ، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُحمَل، قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ” أهو هو ” ؟ ، قالوا: نعم، قال: ” صدق الله فصدقه “، ثم كفَّنه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، في جبَّته التي عليه، ثم قدَّمه فصلى عليه، وكان مما ظهر من صلاته: “اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقُتل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك “.
والصادق يطمئن إلى قوله العدو والصديق، والكاذب لا يثق به بعيد ولا قريب، والصادق الأمين ، مؤتمن على الأموال والحقوق والأسرار، ومتى حصل منه كبوة أو عثرة ، فصِدْقُه شفيع يقيه العثار، والكاذب لا يؤمن على مثقال ذرة ، ولو فرض صدقه أحياناً ، لم تحصل به الثقة والاستقرار ، فما كان الصدق في شيء إلا زانه ، ولا الكذب في شيء إلا شانه ، والصدق طريق الإيمان، والكذب بريد النفاق.
ولنعلم جميعا أن الصدق ينجى صاحبه ، فيُروَى أن الحجاج بن يوسف خطب يومًا فأطال الخطبة، فقال أحد الحاضرين: الصلاة، فإن الوقت لا ينتظرك، والرب لا يعذرك، فأمر بحبسه، فأتاه قومه وزعموا أن الرجل مجنون، فقال الحجاج: إن أقرَّ بالجنون خلَّصتُه من سجنه، فقال الرجل: لا يسوغ لي أن أجحد نعمة الله التي أنعم بها عليَّ، وأثبت لنفسي صفة الجنون التي نزهني الله عنها، فلما رأى الحجاج صدقه، خلَّى سبيله.
وأن الصادق يُرزق صدق الفراسة، فمَن صدقت لهجته، ظهرت حجته، وهذا من سنة الجزاء من جنس العمل ، فإن الله يثبِّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، فيُلهِم الصادق حجَّته، ويسدد منطقه، حتى إنه لا يكاد ينطق بشيء يظنه إلا جاء على ما ظنه .
وروي عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: “أيها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين، وسداد طريق، فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال، أما إنه قد يرمي الرامي، وتخطئ السهام، ويحيك الكلام، وباطل ذلك يبور والله سميع شهيد”.
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون والتزموا الصدق، وتحلوا به في أقوالكم وأعمالكم، لتزكوا بذلك نفوسكم وتصلح أحوالكم، ويتحققَ لكم الخير والفلاح، وتفوزوا بمغفرة من الله ورضوان .
التعليقات مغلقة.