اللحظات الأخيرة …بقلم محمدمندور
ها أنا ذا على فراشي ممتدة قدماي، أنظر في سقف ماض لي ، أتذكر آخر مرة كنت فيها خارج حدود حجرتي؛ حجبوني عن روحي الثانية” أمي” و عن إخوتي، عن وجه أبي الذي أشبهه، عود مؤجل ربما لن يتم… إن كنت منعت عن الاختلاط فلحظاتي الأخيرة لم تزل معي كأنفاس أسر إليها حكاياتي التي لم تستكمل بعد.
على مهل تستنطقني لأكمل لها، وماذا بعد؟
اعتدلت قليلا وحدقت أكثر في لون الغرفة القاتم وهي تصغي :
أتعلمين أنني مت قبل ذلك، نعم مت عندما فارقني صاحبي دون علمي، ها أنا رأيته في رؤياي البارحة يلوح لي وألوح له فقمت أمسح دموعي التي غلفت وسادتي، أتعلمين أني لم أعلم بوفاته إلا بعد ثلاثة أعوام بالصدفة، ارتبطت به في مرحلتي الجامعية كأخين قبل أن نكون صديقين، أحببت جلسته وروح الفكاهة التي تنسينا ضغوط المحاضرات والمذاكرة؛ كان يحفظ الإعلانات عن ظهر قلب، يقلد حركات الممثلين، يغني بصوت أجش رغم ضآلة جسده فيسرقنا الوقت ونسرقه في القهقهات وهكذا، نلتف عند مجيئه لنتخلص من كآبة تحط على وجوهنا، أذكر أنني قابلته بعد تخرجنا بعام وقد شاخ وهو في شبابه لم أكن أعلم أنه مريضا إلا عندما سألت عن سبب وفاته ليخبرني من صادفته من قريته: أن الأطباء حاروا في مرضه، ربطت تلك اللحظة بيوم لقائه ماشيا بجلباب أبيض مع أبيه، لتأخذني الدنيا عنه بعيدا وألوم نفسي ألف مرة عن تقصير السؤال عنه ويودعني ويوجعني بعدها بأعوام ثلاث، أماهو عندما أفاقت روحه من كبوتها أتاني الليلة بقميصة الأحمر الذي كنت أعيره به مازحا.
هل تصدقين أنني سعيد رغم الألم؟
لماذا؟
لأن الألم ينسيني من نسوني، فأنا شخص حساس جدا، ربما القصاص أتى لي من هذه الزاوية، زاوية صاحبي الذي لم ينسني، ولهذا تأثرت وكدت أن أقتل، لقد ظللت شهرا تغتالني الأحزان حتى انفض سوق التباكي وبعدها اتهمت نفسي بالخيانة للوفاء،
كثيرا ممن عاشرتهم ويعلمون بما أنا فيه الآن لم يسألوا ولو مرة منذ احتجابي وكأنهم ينتظرون علتي، الأسماء اللامعة من حسين وحمدي وعلي خُرست ألسنتها، لا أنتظر منهم زيارة، أنتظر فقط اتصالا يصبر، دعوة تشعرني بأنهم يستحقون الصداقة وأنني كنت محقا عندما ساندتهم، أما ما يهزمني حقا الفراغ الذي حل دون استضافته في كتابة روايتي الأخيرة، هو الآن بين يدي ولكنه مشلول مثلي في إتمامها، يحتاج لقوة الهواء ليحمل قلمي وبلاغة خيالي التي شغلها التأوه، أراه هو الآخر يجهز علي كأنه يعاقبني عندما لم أعطه حقه أثناء طرقه لخلوتي.
هل يمكنني أن أفوضك لمهمة؟
ما هي؟
أن تنقلين أسفي إليه؟
أنا لك أنت فقط. لا أستطيع أن أخاطب غيرك.
إذا كان الأمر كذلك سأبث إليك مجتهدا خاتمتي المستعصية علي الآن.
كيف؟
سأعرض عليك النهاية
كما تحب ..
كأني على مكتبي الأنيق هذا أغزل بوحي بدموع حبيسة، بلا خيال طموح أو بلاغة متقنة، أقول: العلامات ناصعة البياض أمامي يارفيق، أحس الآن براحة مبهمة، أن سطوعي وخفوتي صنعته الأقدار، سأنتهي كما انتهيت أنت فمنذ أيام وأنا بلا زائر، والمبعوث بهويته المعلومة في دفتر الغيب ساعته لم تأت بعد، أنبأوني أني بلا علاج مثلك، الخوف صد من حولي لأن يقتربوا، سعيد بلحظاتي الأخيرة التي تستبقيني أنيسا رغم نهاية روايتي المنقوصة. نقطة
التعليقات مغلقة.