لن أُحرم منك
ضى الجلادى
من منا لا تسحر عيناه لآليء شهر القرآن وقد انبثق محياه وسط الطرقات مزيناً أرض الرحمن بكساء غشته البهجة والضياء ؟ هذا ما كان يدور في عقل الشاب المرح الذي ناهز عقدين من الزمان بينما كان مفترشاً كرسيا شرفته يرمق سماء بلاده بأمان ، كان لمحمد على قدرا كبيرا من اليقظة والانتباه إلا أنه لم يعِ بأن سائر قاطني الحي قد ترامت لمسامعهم هتافات أمه التي شارفت أحبالها على الزوال وسط دوامة من الصراخ ، لم يكن محمداً على طبيعته ، شغل تفكيره شيء ما عجزت والدته التي استقرت بمحاذاته حتى عن استنباط كنهه وثبر أغواره .
قررت أن تشق الصمت لتحيي فؤاد صغيرها الأنان بعدما أحاطته بذراعيها وهو لايزال على وتيرته الأولى مستنداً على سياج شرفته ، وقالت بهدوء وقد تعمدت مزج ألحان الأمومة والحنان وسط كلماتها الدافئة (ما بالك يا بني؟…لماذا أرى ولدي الحبيب قد بات سجاناً يحبس الدمع ليتقاطر العذاب في جوفه؟….أهناك ما يؤرقك يا فلذة قلبي ؟) ظل المخاطب صامتاً يستجدي رب السماء بأن أزل عني ما اعتمل صدري الذي بات لا يقوى على الدهس أسفل حِمل أضنى الجبال يوماً ، غلفه السكون ليصرخ قلبه الملتاع وهو يرمق وجه أمه التي شحب لونها فور رؤيتها لما حل بحدقتيه وقد انطفأت براءتهما لتطمث الحياة من الوجود ، إندثرت ابتسامتها وآلت للضياع ليعتملها اليقين بما حدث ، غادرته عنوة لتطلب النجدة .
رغم تقبل الجميع للأمر وخضوعهم له إلا أنه اعتزل مربضهم عاقداً العزم على التمرد والانسياق لرغبته الجرداء .
هرول محمد تجاه هاتفه الجذع والتقطه بحماس ليهاتف رفاقه الذين أذعنوا لأوامر صدرت من رب العرش فردوه خائباً ، لم يتوانى الأخير عما زلزل خاطره وفجر حمم الغيظ داخل صدره ، بل أقدم على ما آل لإضرام نيران الأسى وسط أغوار قلبه البالي .
أسرع صاحب الابتسامة الصافية بمغادرة المنزل قبيل عودة والدته لغرفته للاطمئنان عليه تارة ولتطعمه بيديها تارة أخرى ، عزم محمد على الذهاب للميناء ليرتوي بإكسير الحياة ويشبع رئتيه بهواء بارد يلفح وجهه العتيق ، مرت الساعات طوال ولم يعد للبيت .
(خالد…خااااالد…تعال بسرعة…محمد ليس هنا…لابد أنه قد غادر المنزل دون أن ننتبه إليه….يا إلهي ماذا سنفعل الآن؟؟؟) جحظت عيناها جراء الفزع الذي ألم بها بينما كان المخاطب يقف شامخاً دونما حراك يفكر في حل للورطة التي وقعوا فيها لتنتزعه زوجته بلهاث مستميت:(هاااا؟؟…ما بالك لا تنبس ببنت شفة؟؟) وقتها أجابها المناجى بصوت يحمل بين طياته القلق والتوتر ( لا تسأليني عن شيء فلست أدري ما الواجب علينا فعله لإنقاذه سوى إبلاغ الشرطة…لكنني لن ألقي بولدي الوحيد وسط مساءلات لا طاقة لنا بها….لا تنظري إلي هكذا يا فاتن….أنت تدركين جيداً أن فعلة ولدنا تلك لم تكن سوى مسألة وقت حتمية الحدوث لما يمتاز به من خصال عدة أخطرها العناد الذي لا يعود عليه سوى بالخسران المبين…آمل أن يتراجع عن تهوره ويعود إلينا قبل أن تكبس أناملي أزرار الهاتف ) .
تجول محمد في كل الطرقات التي حلم بزيارتها وقد نال منه التعب حتى عثر على المتجر الذي هدف إليه بعدما فوجيء بعدم إغلاقه ، ظل الأخير هكذا حتى منتصف اليوم التالي حين بدأت تواتيه نغزات مزعجة في صدره تجاهلها لاعتقاده بأنها نجمت عن برودة الهواء الوالجة لرئتيه ، وبعد سويعات قلال فقد الوعي وسط الطريق .
فتح محمد عينيه داخل غرفة بيضاء ملآى بالأجهزة والمعدات الواقية ليتبين أن الأهوال التي تحداها قد اقتنصت جسده الواهن الضعيف ، طال الأمد به راقداً فوق فراشه المخملي الذي بات صخرياً يعتصر ظهره الأنان حتى أُعلن شفاءه ليغادر أعتاب أرض السلام عائداً لمنزله الحبيب الذي عاتبه قاذفاً جدرانه بمنجنيق الكراهية والبهتان ، تلقفه صدر اشتاق لدفئه وعطره الذي احتواه بلهفة وأمان ، أراح محمد جسده باستسلام ، غداً يوم جديد سيحرم فيه من لذه ذلك اليوم الفضيل ، وفجأة سمع صوت قرع يصدو في الأرجاء لينطلق تجاه شرفته مترصداً صاحب تلك الأصوات المدوية التي طرقت أخاديد قلبه ، اتسعت أعين جميع من انتصبوا في شرفاتهم ونوافذهم لرؤيتهم لرجل يقرع الطبل معلناً وقت السحور وقد ذرف دمع الاشتياق ، فانطلقت زغاريد قاطني الحي مهللة بفك الحصار ، لقد عاد رمضان بحلته البيضاء ، زال الوباء ، وهبطت رحمة الله لتغلف العباد .
انفغر فاه محمد لتلمع أسنانه وسط الأضواء التي حولت الظلام لعرس غلفه الفرح والوئام وفتحت أبواب شتى لينطلق الأطفال مطلقين الألعاب النارية ليتحول الهدوء القاحل لألحان رمضانية مبهجة .
رائحة المأكولات المشهية وصينيات الحلوى الممتزجة بالقشدة والمكسرات صفت بانتظام فوق طاولات نظمت وسط الحي لتفرغ المنازل وتتحول مائدة الرحمن من الإفطار للسحور ، سخر محمد من نفسه ولامها على الطيش والخذلان الذي كاد يفقده حياته حامداً الله على فضله الكبير .
التعليقات مغلقة.