استهلال الشعر الغنائي و مفارقاته بقلم بدر قاسم محمد . جنوب اليمن عدن
الاستهلال في القصيدة هو وجهها الذي أوّل ما نطالعه من ملامحها ، وهو البهو الذي يمر من خلاله المتلقي الى تفحص ألق عينيها الواعد بكيان شعري مكتمل .
وبناء على صنعة الاستهلال يتشكل الانطباع الأول عن القصيدة ، وتتحدد مسارات خاصية التلقي في الاستمرار مع عملية التواصل بين القصيدة والمتلقي أو قطعها والانصراف عنها ، فكلما كان الاستهلال جيدا وبارعا ومدهشا للمتلقي كانت فرصة القصيدة أكبر بإغراء المتلقي وتشجيعه على البقاء معها والاستمرار في التجول في دهاليزها وبنائها والعكس صحيح . والاستهلال لا يتحدد بعدد من الكلمات والأبيات غبر أنه يتناسب مع حجم القصيدة وعدد أبياتها . وقديماً انتبه ابن رشيق القيرواني إلى ما أسماه ب”حسن الافتتاح”؛ إذ يقول: “إن حسن الافتتاح داعية الانشراح ومطية النجاح”. وقد يدعى ب” حسن الابتداء أو براعة المطلع”. والمقصود به هو أن يجعل أول الكلام رقيقاً، سهلاً، واضح المعاني، مناسباً للمقال، بحيث يجتذب السامع إلى الإصغاء بكلّيته، لأنه أول ما يقرع السمع، وبه يُعرف ما عنده.
وبالنسبة للشعر المغنى والقصيدة الغنائية العامية فإن وعي الشاعر – وبالضرورة الملحن والفنان – بأهمية الاستهلال ووظيفته يجعله يستهل الغنائية بصورة غرائبية تصدم القارئ وتستثير أقصى غريزة حب الاستطلاع لديه لإغرائه وجذبه إلى أجواء القصيدة مع أن ذلك لا يكفي وحده لاستمرار المتلقي في مواصلة التواصل مع العمل الإبداعي إذ لو تبين له أن العمل لم تحتفظ بألقه بعد الاستهلال، فإن خيبة الأمل لن يشفع لتلك البراعة في الاستهلال .
يقول الشاعر المصري محمود صلاح وهو يحل ضيفا متحدثا عن روائع شعراء الزمن الجميل على برنامج “استديو لايف” لقناة (النيل لايف) , عندما جاء دور الحديث عن الشاعر مأمون الشناوي , ان مأمون يعتبر أول من استهل القصيدة بحرف العطف ” و ” في (و دارت الايام) اذ لم يحدث في تاريخ الشعر ان استهل شاعر قصيدة بالواو إلا مأمون … انتهى.
اعتقد ان هذا الاستهلال الشعري كان غاية في التعبير البديع , إذ انه يبدو مابعد حرف العطف” الواو ” – دارت الايام – معطوفا على قصة ليست مذكورة , فقط استحضرها الشاعر لذهن المتلقي المستمع على انها قصة حب حدثت قديما .. دون ان يكلف نفسه عناء سردها في النص .. ياالله ما أجمل “واو” الشناوي هنا وهو يختصر الكلام ليضعنا في مكان وزمان الدراية والعلم وكأننا جميعا الذوات المقربة من القصة العارفة بكل تفاصيلها , الحقيقة ان الشناوي سرقنا و دون ان نشعر وضعنا مستمتعين في زاوية ( شاهد ماشافشي حاجة ) ! , لا بل هذا الشاهد اللي ماشافشي حاجة مستعد ان يقسم ليدلي بشهادته المؤيدة أقوال الشاعر!.
في سياق ماذُكر عن “واو” الشناوي جرفني تيار السؤال التالي :
- هل “واو” الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في ” و هتسافر ” لنجاة الصغيرة تشبه “واو” مأمون الشناوي في ” و دارت الايام ” لأم كلثوم ؟!
اعتقد ان ” واو ” الأبنودي في ( و هتسافر ) تجر – بالعطف على مجهول – قصة مستقبلية من الفراق والألم ستحدث ..!
بينما ” واو ” الشناوي في ( و دارت الايام ) تجر – بالعطف على مجهول – قصة ماضية من الحب و الشجن حدثت .. !
وأنت تقف بين استحضار ماحدث عند الشناوي وما سيحدث عند الأبنودي , تتساءل : أي “واو” أبلغ , بل أي “واو” تفضل بالمناسبة مع ما تشعر ؟!.
الحقيقة ان أجمل الشعر المُغنى هو الذي عادة ما يعنون بمقطعه الإستهلالي ! , لماذا ؟!
أولا لأن حافظة الإنسان بطبيعتها الجنوح إلى عنونة ما تحفظ , إذا ما أعياها التذكر , بمستهله تلقائيا , بدليل ان حافظة البعض مازالت تسمي “سورة الفاتحة” من القران ب” سورة الحمدُ ” و البعض الاخر يسمي أغنية ” الاطلال ” لأم كلثوم ب” يافؤادي لاتسل ” .. و إلى ذلك تذهب حافظة الإنسان للشعر المغنى غالبا , لذا فالنص الغنائي الجميل المعنون بمستهله عندما يأتي مواكبا للطبيعة البشرية يسهل تلقيه و ذيوعه فيوضع في خانة : جمال النص السهل الممتنع !.
ثانيا أعتقد لأن النص المعنون بمستهله دائما ما يباشر المستمع المتلقي بملخص الغرض الشعري من أول وهلة , بدء المستهل .. من ثم يبقيه على اتصال دائم بذهنية المتوقع توقعا مسبقا لمسار النص الشعري , كأنه قصة اعتمدت على عنصر التشويق و الإثارة !.
ومثلما يقال : الكتاب يُعرف من عنوانه , كذلك بإمكاننا القول عن هكذا نص غنائي معنون بمقطعه الإستهلالي انه : نص غنائي يُعرفُ من عنوانه ” استهلاله ” , إذا ما حاولنا ان نعدد نصوص الشعر الغنائي المعنونة بمقطعها الإستهلالي كالتي ذكرناها سابقا , سنذكر مكتفيين ما سمعنا لأم كلثوم على سبيل المثال لا الحصر :
” حُب ايه ؟ ” , و ” أنساك ” و ” لسه فاكر ” و ” هوّا صحيح الهوى غلاب ؟ ” و ” أغدا ألقاك ” الخ .. اظنها مجتمعة تشكل نسبة أقل من أغانيها , لتأخذ النسبة الأكبر الأغاني المعنونة بعنوان مستوحى إما من قفلة تقفية لعدد من الأبيات أو من كلمة أو كلمتين مذكورتين في النص كخلاصة الغرض الشعري , منها على سبيل المثال لا الحصر :
” أنت عمري ” و ” سيرة الحب ” و ” الاطلال ” و ” يامسهرني ” و ” بعيد عنك “.. الخ , كذلك هو الأمر بالنسبة لعديد الشعر العربي المغنى من كبار المطربين العرب , فالجميل الأقل منه ما عنون بمقطعه الإستهلالي !.
على منوال العنونة الاستهلالية ومفارقاتها العجيبة و الجميلة كالتي ذكرناها سابقا عن الشناوي و الأبنودي , سنحاول أن نضرب مثالا اخر بمقارنة أخرى بين استهلال الشاعر العربي المصري : عبد الوهاب محمد , على لسان الست أم كلثوم في نص أغنية ” حب إيه ؟! ” و بين استهلال الشاعر الحضرمي اليمني : حسين أبوبكر المحضار , على لسان الفنان الكبير : أبوبكر سالم بلفقية , في نص أغنية ” أقوله إيه ؟! ” , و وجه المقارنة يحضر من ان كلاهما استهلا نصهما الغنائي بمفردة ” إيه ؟! ” و التي تعني في العربية الفصحى ” ماذا ؟! ” .
حيث يمكنا البدء بالشاعر : عبدالوهاب محمد و ب(ايههُ) المصرية الاستفهامية الإستهلالية , بوصفها ملخص الغرض الشعري كله التي تستهل النص وتستهلنا بمستحضر سؤال هو ” حب إيه ؟! ” يأتي في البدء المستهل كحصيلة نهائية لتجربة حب فاشل , و يأتي هذا السؤال المستهل ليوجهَ من شخص الشاعر المتكلم بصيغة المخاطب : حب إيه ؟! , و بمجرد ان يُبين سؤاله ” حب إيه ؟! ” بقليل من التفصيل بالقول :
- حب إيه اللي انته جاي تقول عليه ؟!
انته عارف قبله معنى الحب إيه ؟! ..إلخ.
ولأنه سؤال لابد ان تستحضر مخيلتنا حالتين للصورة الشعرية :
الأولى للشخص المتكلم والثانية للشخص المخاطب , تأتي الحالة الأولى لتعبر عن يأس الشاعر المتكلم واحباطه من زيف إدعاء شخص المخاطب حبهُ له , فهي ترفع لنا بصمات الماضي عن مسرح جريمة الحب الفاشل مع من لايعرف ماهية الحب !.
و تأتي الحالة الثانية لتعبر عن تزلف اللحظة الراهنة لدى شخص المخاطب , فهي تنقل لنا المشهد على الهواء مباشرة عن الدور البائس لشخصية الشخص المخاطب الكاذبة المخادعة !.
ثم و قد بتنا على دراية و اقتناع تام بوجهة نظر شخص الشاعر المتكلم , يخطفنا إلى سياقه التفصيلي الجميل وهو يملي علينا الشروط التي يجب ان تتوافر في الحبيب , و الصفات التي توافرت , بالتجربة , في شخص ” الحبيب الافتراضي ” المخاطب المدعي الحب زورا و بهتانا وهو خلي القلب تماما من مشاعر الحب و الوداد !.
هذه هي خلاصة ” إيه ” الشاعر : عبدالوهاب محمد , الاستهلالية في نص أغنية ” حب إيه ؟! ” , فماذا عن ” إيه ” الشاعر : حسين المحضار , الحضرمية الاستفهامية الإستهلالية في أغنية : أقوله إيه ؟!.
” إيه ” المحضار هنا تأتي في سياق سؤال شخص الشاعر المتكلم الموجه للجمهور في صيغة المخاطبين , السؤال الذي يعرضه عليهم بأسلوبه الذي يلزمهم الا يتشاركوا معه المشاعر و يشاركوه الرأي و الإجابة , فالمحضار يسأل جمهور المخاطبين عن حاله و حال ” الحبيب ” المفرد الغائب , و بمجرد ان يُبين فحوى سؤاله ” أقوله إيه ؟! ” بقليل من التفصيل بالقول :
- أقوله إيه لو قـال مـالي نفس تهواك —- مـالي إذن تسمعـك مـالي عين تتمنى تراك
أقـولـه حـبني بـالغصب …. لا لا. - أثـور .. أعـلن عـليـه الحـرب …. لا لا .. إلخ .
تستحضر مخيلتنا على الفور حالتين :
- الأولى هي حالة الحب من طرف واحد التي يعيشها شخص الشاعر المتكلم ” المحب ” .. و بشيء من الحسرة يعرضها على الجمهور المخاطب بمنطق السؤال العقلاني المدعم بملحق دبلوماسي من الأسئلة يعيينها المحضار في سفارة النص المرسل للجمهور , كي يقيلها الجمهور على الفور بالإجابة : .. لا لا .. !.
- و الثانية هي حالة الحبيب الطائش اللامبالي السابح في فلك غير فلك الشاعر !.
و كما فعل زميله الشاعر : عبدالوهاب محمد , فعل المحضار فبعد ان خطف مشاعرنا معه وبتنا على مقربة من وجعه و حيرته, أوصلنا أخيرا جميعا إلى مرافئ صبره ودبلوماسيته المحبة بلسان حال يقول :
ماحيلتي ؟! إلا أسامح و أعطف خاف بالعطف اتوصل اليه !. انتهى .
وجه الشبه بين ” إيه ” عبدالوهاب محمد و ” إيه ” المحضار , أنهما يرويان بيأس قصة حب حدثت لهما من طرف واحد فقط هو طرف شخص الشاعر المتكلم , و هي عندهما من زاوية أخرى ” إيه ” المخاطبة خطاب مقتضب اقتضاب مباشر عند عبدالوهاب للخاص ” المخاطب ” , مقتضب اقتضاب مباشر عند المحضار للعام ” جمهور المخاطبين ” , وهي أيضا عند عبدالوهاب تحكي قصة حب حقيقي من طرفه هو , قابلها زيف وكذب الطرف الاخر , و تحكي عند المحضار قصة حب حقيقي من طرفه هو , قابلها تيه و طيش الطرف الاخر !.
اخيرا :
وأنت تقف بين ” إيه ” عبدالوهاب وهي تجتر قصة حب من طرفه هو فقط , وبين ” إيه ” المحضار وهي تجتر قصة حب من طرفه هو فقط , تتساءل :
أي ” إيه ” أبلغ , بل أي ” إيه ” تفضل بالمناسبة مع ما تشعر ؟!
…………
التعليقات مغلقة.