“هنا القاهرة ” إلى أين ؟ بقلم د.ريهان القمري
“هنا القاهرة ” إلى أين ؟
بقلم : د ريهان القمري
“هنا القاهرة ” أقولها مكتوبة الآن بعد أن فقدت أذناي لذة الاستماع إليها
” هنا القاهرة ” أكتبها و الدموع تملأ عيني بعدما علمت بتوقيف برنامج الرسم بالكلمات للأستاذة جيهان الريدي في الدورة الإذاعية الجديدة
“هنا القاهرة ” فليعلم الجميع أن هذا
البرنامج كان له لون خاص قائم بذاته لا يمكن أن يقارن بغيره فقد كان يجمع بين الفن التشكيلي و الشعر و القصة القصيرة و الموسيقى في كبسولة واحدة دسمة المحتوى رشيقة البنيان تصل إلى قلوب المستمعين و عقولهم بقمة البساطة في صحبة صوت ملائكي قادر على اختراق كيان المتلقي أينما كان
” هنا القاهرة ” يكتبها سن قلمي الحزين عندما فوجئ بمنع الرسم بالكلمات من الدورة الاذاعية القادمة و مع برامج ثقافية هادفة أخرى مثل :
كيف يفكر العالم؟
زهور من بستان الحكمة .
للمدن رائحة.
المجلة الإسلامية.
أطفال النهارده
النص الأصلي
لنتساءل جميعا في حزن شديد لماذا؟
ونتذكر في أسى الجملة الأشهر إذاعيا و هي : “هنا القاهرة ”
تلك الجملة التي أطلقها الشهير أحمد سالم في افتتاح الاذاعة المصرية عام ١٩٣٤ لتتحول إلى أيقونة إذاعية على مدار العقود تتلقفها آذان قلوب المستمعين لتسكن أغوار كل من يفتح “الراديو” فيقول في نشوة : ” أنا هنا ، أنا معكم “
وكأن هذه الجملة القصيرة ذات الكلمتين فقط ما هي إلا مفتاح الربط الاثيري بين الإذاعة و المستمعين لتصبح الاذاعة ليست فقط مجرد وسيلة للتسلية بل عقد غير مكتوب يشهده الجميع و يوقع عليه كل الأطراف بكل ثقة : هنا المرآة الحقيقية لكل الشعب المصري ، هنا الحياة ، هنا المحطة الرئيسية التي تتجمع فيها كل فئات الطبقات المجتمعية فكريا و ثقافيا و روحيا ، هنا تلتقي الافكار بعد أن طارت طيورها وعبرت الحواجز و الحدود الجغرافية لتصيب الأهداف جميعها دون أن تخطئ أحدهم ، هنا مصر الحقيقية في ثوبها الناعم
هذا الثوب الناعم الذي رصع نسيجه عبر السنين الماضية بالعديد من الجواهر التي احتلت ذاكرة الآذان لمدة عقود لترسخ لمفهوم العراقة و الأصالة و تنادي إلى الارتقاء بالذوق العام وعلى سبيل المثال و ليس الحصر :
•”كلمتين وبس “للفنان الراحل فؤاد المهندس
• “على الناصية” للإذاعية القديرة آمال فهمى والذى كان ينتظره المستمعون بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع وكانت تعرض من خلاله المشكلات المجتمعية ثم تواجه بها المسئولين لحلها.
• “همسة عتاب” الذى كان يعرض مشكلات المواطنين فى إطار درامى تمثيلى
• “طريق السلامة” للراحلة آيات الحمصانى، الذى كلن يعرض الحالة المرورية وأيضا قواعد السلامة و يقدم الإرشادات لقائدي السيارات
•”إلى ربات البيوت” الذى اهتم بقضايا ومشاكل المرأة وكانت أشهر من قدمته الإعلامية صفية المهندس
• “غنوة وحدوتة” التى قدمته العملاقة أبلة فضيلة وكان تقص من خلال الحكايات للأطفال ثم غنوة معبرة لهذه الحكاية
•”لغتنا الجميلة ” للعملاق فاروق شوشة
والكثير و الكثير من البرامج التي حفرت في قلوب المستمعين عبر العقود و توارثتها الأجيال
هكذا كانت القاهرة عندما كانت جملة ” هنا القاهرة” هي الأصدق و الأروع وصفا عبر العقود منذ أن بدأت الإذاعة
في عشرينيات القرن الماضي وكانت عبارة عن إذاعات أهلية حيث بدأ بث الإذاعة الحكومية المصرية في 31 مايو 1934 بالإتفاق مع شركة ماركوني ثم مُصِّرَت في عام 1947 وألغي العقد مع الشركة و كان عدد محطات الإذاعة المصرية في بدايتها أربع محطات حتى وصلت الآن إلى :
إذاعة القرآن الكريم
إذاعة الشباب والرياضة
إذاعة الشرق الأوسط
إذاعة القاهرة الكبري
إذاعة البرنامج العام
إذاعة راديو مصر
إذاعة البرنامج الثقافي
إذاعة البرنامج الموسيقى
إذاعة الأغاني
إذاعة الأخبار والموسيقى
إذاعة الكبار
إذاعة صوت العرب
إذاعة البرنامج الأوربي
إذاعة الكوميديا
إذاعة الدراما
إذاعة نغم fm
” هنا القاهرة ”
كلنا يتذكر نفس الجملة عندما قامت ثورة يوليو 1952 حتى الذين لم يحضروها من الأجيال المتلاحقة ولكن شاهدوها في العديد من الأعمال الدرامية التي وثقت هذه الحقبة التاريخية الأكثر ذخرا ابداعيا و اعلاميا في تاريخ مصر الثقافي الحديث لنتعرف جميعا كيف لعبت الإذاعة المصرية دوراً كبيراً في إنجاح الثورة وثبتت دعائمها من خلال بث الأغاني الوطنية والبرامج الإذاعية الهادفة
لتنتقل الإذاعة بعد ذلك من تبعية مجلس الوزراء إلى وزارة الإرشاد القومي، ويصدر قرار جمهوري باعتبارها مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية ليتم الحاقها برئاسة الجمهورية عام 1958 حيث أصبحت المؤسسة المصرية العامة للإذاعة والتليفزيون في عام 1961، ثم صدر قرار جمهوري في عام 1971 بإنشاء اتحاد الإذاعة والتلفزيون.
وقد نحتت الإذاعة المصرية طوال تاريخها الماضي و الذي تعدى الـ85 عاماً الوجدان المصري والعربي جيلا بعد جيل من خلال برامجها الإذاعية الهادفة و إعلاميها المتميزين مثل
بابا شارو، سلوى حجازي، ماما سميحة، فهمي عمر، أبلة فضيلة، فؤاد المهندس ، صفية المهندس ،أحمد سمير، همت مصطفى، ليلى رستم، عمر بطيشة، وغيرهم من رواد الإعلام في مصر. الذين خلفتهم طبقة من الجيل الواعي ، طبقة لا تقل ابداعا و لا تأثيرا إذاعيا عنهم و منهم الأستاذة الإذاعية جيهان الريدي و برنامجها المتميز جدا “الرسم بالكلمات ” و الذي أعلن توقفه في الدورة القادمة لتصبح هناك العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها على الساحة و تخترق عقلي بشدة وهي :
هل نحن مرتدون إلى طريق الإذاعة الأهلية بعد أن صعدنا إلى إذاعة البرنامج العام ؟؟؟
وهل إذاعة البرنامج العام تنتمي لإذاعة أخرى غير الإذاعة المصرية ؟
وما هو دور الإذاعة الحقيقي ؟هل تقديم السلع الاستهلاكية أم السلع الانتاجية و التي أهمها على الإطلاق بناء و انتاج إنسان مصري سويّ قادر على الصمود أمام أي غزو فكري أو ثقافي متطفل لا يحترم تاريخه و شخصيته المصرية ؟
سيبقى صوت الإذاعية المحترمه المثقف الواعية جيهان الريدي يتردد في القلوب قبل الأذن… هنا القاهرة