“طيّـارة ورق ” قصة قصيرة صلاح المكاوي
أبواقُ عربات الشرطة تزعقُ بصورةٍ متلاحقة، يبدو أن الأمر جلل!
تنطلق صوبَ القرية المجاورة، إنها تُقلُّ أعدادًا كبيرةً من قوات الأمنِ مُدجّجين بالأسلحةِ النارية، تعلو رؤوسَهم الخوذاتُ الحديديةُ السوادء،
وجوههم مُلثَّمةٌ وعيونهم فاحصة، تزأرُ حناجرُهم، دبيبُ أحذيتهم الثقيلة يثيرُ النَّقعَ عاليا في السماء، هيعاتُهم تُدوي وتتردد في الفضاء، ياتُرى ما الخطب؟! يبدو أنهم في طريقهم للقبض على بائعي (البانجو) القابعين على ضِفَّة النهر، ودكِّ أوكارِهم وهدم حُصونِهم ومُصادرة أسلحتهم التي باتوا يتبجَّحون بها ليلَ نهار؛ يُرهبون بطلقاتها العصافيرَ، ويعكّرون بضجيجها صفوَ الماء النَّمير، لا أحد يجرؤ على الاقتراب منهم؛ إنهم يحرقونك بنظراتهم التي تشي بتمكنهم، ولسانُ حالهم يقول: امض وإلّا….، فيمرُّ المُتنزِّهون على النهر وكأن لم يروا شيئًا؛ فالبنادقُ الآليّة المُشهَرَة والأسلحة البيضاء الثقيلة (السِّنج) كفيلةٌ بردع كل من تُسوِّل له نفسه أن ينبِسَ ببنتِ شَفَه!
أجولةُ (البانجو) مُمددةٌ كقتلى الحرب، تخرجُ منها اللّفائفُ في خِفَّةٍ وبراعة تتناقلها الأيدي الآثمة برشاقة لتستحيلَ أموالًا طائلةً تقبعُ في جوالٍ آخر.
العصافيرُ تشكو كل يوم إلى المسئولين ولامجيب، بيد أن وسائل الإعلام والسوشيال ميديا ووكالات الأنباء قد تناقلت زقزقات العصافير وشكاواهم؛ فكان الأمر بالتّحرك على الفور!
دبيبُ الجنود على جسر النهر يعلو ليُزعجَ الأسماك ويقضَّ مضاجعهم.
همهمات وإشارات غير مفهومة، أحاديثُ جانبية في أجهزة اللاسلكي، ثم تطويقٌ كاملٌ لكل مداخل القرية من جهة الحقول، كباري النهر أصبحت تحت السيطرة تماما، تشرئبُّ أعناقُ الأهالي، يتابعون الأحداث عن كثب، قلوبهم تكاد تقفز من صدورهم!
أخيرًا سيتحرّرُ النهر، ولن تُسمعَ الطلقاتُ النارية، ستطير العصافير آمنةً، ستنعم المواشي في الحقول ولن تفزعَ الحَمير.
على الضِّفة الأخرى للنهر ترقبُ الأحداثَ طائرةٌ ورقية بديعة حلَّقت بعيدًا بعيدًا تختالُ وتزهو في ألقٍ كأنها قرصُ الشمس، ألوانُها برّاقة، وذيلُها يهفهفُ وراءها فيدفعها لتداعبَ الهواء وتُعانقَ السُّحبَ البيضاء .
(أدهم) طفلٌ دون العاشرة يجذبُ خيطَها ويرخيه، يرقُبُها في زهوٍ، يضحكُ لها فتبادله هي الأخرى متراقصةً في دلال!
ربطُ (أدهم) خيطَها في شجرة الكافور وجلس القرفصاء يلعقُ بعض الحلوى معه ويرقبُ تلك الجحافلَ السوداء وتحركاتها الصَّاخبة وكأنه يرقبُ فيلمًا سينمائيا مُثيرًا، يوزِّعُ نظراتِه؛ لهم تارة ولطائرته تارةً أخرى، وفجأة! تنتشر القوّاتُ لتمتطيَ الكوبرى وتعبرَ النهرَ مُسرعةً إلى الطفل، مازال يرقبهم بشغف، وكأنه يجلس في بانوراما حيّة أو يرتدي نظارةً ثلاثيةَ الأبعاد، فيالها من روعة!
تقتربُ القوات منه أكثر فأكثر، يزدادُ شغفُه وترقُّبه!
طائرتُه ترقبُ الأحداثَ من عَلٍ، وإذْ بهم يضعون حلقات الحديد (الكلابش) في يديه فتنزعجُ الطائرة وتتمنى أن لو كان لديها ماتدفعُ به عن صاحبها البريء!
لن ألعب معكم، يقولها أدهم ضاحكًا، أنا سألعب مع طائرتي، لن أتركها وحدها؛ فربما وقعت!
يُلقون القبض عليه، فيقول أدهم: هل أنتم جادون؟ ولم؟!
يُجبرونه على إنزال طائرته الورقية في عجل، يجرُّها سريعًا من الخيط الحريريّ الذي أدمى يديه البضّتين ، تأبى الطائرة وتسمق عاليا، تحمله بكل قوة ليطيرَ معها في الهواء، يصوِّبون عليها، تتمزق أوصالها، تتهاوى بالغلام، يزجّون بهما في صندوقٍ مُغلق ثم يقتادونه للتحقيق معه بتهمة إطلاق طائرة ورقية مُزوَّدة بكاميرات للتجسس!
من بعيييد تُشيّعهُم قهقهاتٌ عالية مُحشرجة، ثم طلقاتٌ نارية تفزِعُ الأسماكَ من جديد!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التعليقات مغلقة.